لا فهم للحاضر إلا من خلال تفسير أحداث الماضي. ولا حاضر بدون أمس. ولن يأتي الغد حتى نفك اليوم العقد التي تكونت في البارحة.
في يوم من الأيام، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1919، كان هناك رجلا عربيا، يعيش في الرياض، اسمه عبد العزيز عبد الرحمن السعود، الشهير بإسم عبد العزيز آل سعود، يتميز بالطموح السياسي لإقامة دولة في الأراضي الواقعة في شبه جزيرة العرب. وكانت القوة السياسية الأخرى الموجودة فعلا هي قوة الشريف حسين شريف مكة والمسيطر على الحجاز، وسليل الهاشميين، وقائد الثورة العربية الكبرى!
كانت المنطقة تموج بفورانات ثائرة كثيرة. من حرب عالمية رهيبة أسقطت دولة الخلافة. ومن ثورة الهاشميين التي سميت الثورة العربية الكبرى وهي في الواقع مشروع بريطاني يهدف لإضعاف نفوذ الدولة العثمانية أثناء الحرب عن طريق خلق رابطة جديدة (العروبة) تحل محل الرابطة الإسلامية التي تعتمد عليها الدولة العثمانية.
أراد عبد العزيز آل سعود دولة. ولكي يؤسس دولة؛ فلا بد له من هزيمة الشريف حسين القوة المنافسة في الحجاز. ولكي يهزمه فلا بد له من جيش. ولكي يبني جيشا فلا بد له من موارد. ولا توجد لدى الرجل أية موارد من أي نوع. فماذا يفعل؟
وجد عبد العزيز آل سعود الجيش الذي يريده متوفرا حوله. ومجانا. ولا يحتاج إلا أن يُحشَد. كان هذا الجيش هو الوهابيين. أتباع المذهب الذي سنه رجل عربي آخر عاش في أوائل القرن التاسع عشر اسمه محمد عبد الوهاب. لا علاقة له بموسيقار مصر طبعا. فلا موسيقيين في جزيرة العرب ولا موسيقى. مسموح فقط بالدفوف.
أصبحت الرابطة التي ينبني عليها الجيش السعودي (نسبة لعبد العزيز آل سعود) هي رابطة التعاليم الدينية الوهابية المتزمتة. وجد الوهابيون في سعود ما سيؤمن لهم أن تنتشر أفكارهم وتسود تعاليمهم ونظرتهم للدين، وهو غاية أي مذهب فكري. فماذا يريد أتباع أي نظرية دينية أو فكرية أو سياسية أو غيره إلا السيادة والانتشار؟ ووجد عبد العزيز آل سعود فيهم القوة اللازمة من أجل تأسيس أول دولة تسود شبه الجزيرة.
التقت السياسة بالدين التقاء مشؤوما أغبرا كعادة الاثنين عندما يلتقيا.
دخل الوهابيون، بقيادة أمير الرياض عبد العزيز آل سعود، مكة عام 1924 إن لم تخني الذاكرة. وفي عام 1932 – أيضا إن لم تفعلها معي الذاكرة – أعلن الرجل قيام دولة تحمل إسم جده وجدود جدوده: المملكة العربية السعودية.
ولأن عبد العزيز السعود بدأ من الرياض، فقد أصبحت الرياض عاصمة الدولة. وظلت محتفظة بصدارة التطرف والتشدد والتزمت والتحجر.
لم يكن هناك ما يوحد ويقنع القبائل العربية المتخلفة حضاريا، التي تضمها شبه الجزيرة، بالانضواء تحت قيادة سياسية واحدة إلا قوة المذهب الوهابي. كانت المزايدات والتشدد هي سبيل نظام الحكم لتكريس سلطته وتثبيتها في عقول المحكومين. وهو ما أثبت حتى الآن نجاحه كثيرا.
ويا سبحان الله: ترسل لهم السماء تحت أقدامهم زيتا أسودا يتصادف أنه محرك النمو الصناعي العالمي. لا يستطيع أتباع سعود وعبد الوهاب سوى أن يبيعوا هذا الزيت للخواجات الغربيين. تهبط الدولارات كالسيول، وتحل الكاديلاك محل الجمل. تطير ثقافتهم وتعاليمهم وآرائهم مدعومة بسحر المال لتغزو البلدان الأفقر من البترول حولهم. يتوهبن كل شئ. وترتد دول الحضارة العظيمة في المشرق ووادي النيل قرونا للخلف.
محكومة المنطقة العربية حتى الآن بفكر رجل بدوي بدائي لا علاقة له بالحضارة الحديثة وتعقيداتها ولم ينل أي قسط من التعليم والتثقيف، وينظر للدنيا نظرة ساذجة أحادية، ترتقي بجانبها نظرة الفلاح أو الفلاحة المصرية البسطاء غير المتعلمين، حتى لتشعر أن هذا الفلاح أو هذه الفلاحة هي أو هو فولتير يتحاور مع أبي جهل شخصيا!
هل فاز أبو جهل؟
هل تسود أموال أبي جهل على أفكار فولتير وتسحقها سحقا؟
مازالت فصول المأساة تتوالى.
5 comments:
بوست جميل ..انا واثقة انى عمرى ماهدخل مدونتك وهخرج من غير مااستفيد حاجات :)
اتباع ثقافة القطيع و توحيد الزى والمرجعية وتحديد من يكون الذئب للجميع ومكن يكون الراعى للجميع ..والشعور المصاحب لها من الاحساس بان القطيع على بر الامان والطريق الصحيح واستغلالها لتقوية دوافع البقاء كلها من بقايا العقل الحيوانى البدائى ... حط عليها شوية دين ومعتقدات روحية تبقى كملت الحمدلله .
بس احنا (مصر ع الاقل) مكناش علمانيين قبل كده.. وانا بصراحة مش حاسة ان قوة التيار الوهابي هى اللى رجعتنا لورا .. يمكن عشان انا مش فاهمة الماضى اوى بس حاسة اننا بقالنا كتيييير اوى ورا اصلا.
كل تحياتى:)
عزيزي اناتوميست
ما هذا المقال الرائع؟ لقد جئت لاكتب تعليقي على مقالك السابق لاحييك عليه وعلى ما ورد به من افكار هادفة وتحليل متميز, لكني فوجئت بهذا المقال الجديد. هل اصبحت تنشر مقالا يوميا يا استاذنا؟ اتمنى ذلك رغم الصعوبة التي سألقاها في المتابعة
نعود لمقال اليوم.. سرد مختصر, سلس, مبسط, لتاريخ دولة آل سعود وأثرها السلبي على المنطقة بما تحمله من مرجعية متطرفة متأخرة تدعم شعور التعصب الديني وتعرقل حركة التنمية والتقدم في بلد مثل مصر, تملك كل المقومات التي تؤهلها لان تودع العالم الثالث, ومع ذلك فانها مكبلة من جراء الغزو الثقافي الصحراوي الذي أتى على الأخضر واليابس ليمحو هوية وادي النيل ويجفف منابعها
سيدي الفاضل.. كنتم قد بدأتم سلسلة من المقالات التحليلية التنورية, التي شرحت فيها الجسد المصري بكل دقة لتصف ما اصابه من امراض وسبل علاجها.. وقد كنت انتظر كل جزء في هذه السلسلة بفارغ الصبر.. لكني لاحظت توقفكم المفاجيء, الذي ظننته يعود الى انشغالكم في العمل.. وطال الانتظار وعدتم بمقالات غاية في الروعة والثراء, لكنها منفصلة عن السلسلة السابقة.. فهل لي ان اعرف سبب التوقف عن المضي قدما في هذا التشريح الذي نحن في أشد الحاجة اليه؟
ارجو يا سيدي الا يكون السبب هو احباطكم من بعض التعليقات التي تلقيتموها على المقالات السابقة.. فهناك العديد من قرائك ممن يقدرون مجهودكم العظيم وينتظرون المزيد من التحليل والتشخيص
خالص تحياتي واحترامي
عزيزتيّ
شكرا وشكرا وشكرا لإثراء عقلي بآرائكم ورؤاكم المضيئة .. وكل تقديري لحسن الظن في شخصي
..
تحياتي واحترامي
مع الاسف النظره الشوفينيه المتعاليه انتشرت لدى بعض ابناء جلدتنا المصريين بشكل اصبح معه شكلنا فضيحه بجد وتدوينتك دي اكبر دليل نظره مليئه بالصور النمطيه عن الجزيره العربيه وتاريخها بشكل عجيب غريب لدرجه ان انا مش عارف ابدأ معاك من فين بالزبط
اولا مش كل اهل الجزيره العربيه بدو يعني النبي واصحابه وحتى قبل كده كان فيه ناس متمدنين ساكنين في مدن ليها اسوار وبيتاجروا بالقوافل وبعضهم بيزرع ويحصد يعني مش بدو في خيم وبتاع ده قبل الف وربعميه سنه والتحضر ييزيد طبعا يبقى ازاي حضرتك بتقول او بتفترض انهم كلهم بدو في عبدالعزيز السعودمش منطق فضلا عن ان التاريخ بيقول انه فيه حضر وحياه متحضره هناك ده للي عايز اكرر عايز يشوف الواقع
ثانيا كان فيه موسيقى عود تحديدا بس لان حضرتك مش عارف ما بيعنيش انه مفيش
ثالثا التقدم العمراني وغيره اللي حصل في مصر وغيرها حصل نتيجه الاستعمار مش نتيجه جهود ذاتيه والدليل هو توقف التطور في هذه المجالات بعد
رحيل الاستعمار فما تلومش الدول اللي ما حدش استعمرها بقه
عبدالعزيز السعود ظهر قبل التاريخ اللي حضرتك ذكرته بسبعطاشر سنه وما كانش اول حاكم في اسرته ده كان فيه الدوله السعوديه الاولى وبعديها التانيه وهو عمل التالته والتالته تابته وكل تاريخ اسرته مرتبط بدعوه ابن عبدالوهاب قبل ولاده عبدالعزيز نفسه بميتبن سنه يعني هو ما اخترعش حكايه
الدين عشان يعمل الدوله ده شيء سابق لوجوده
مش كل سلفي يعتبر وهابي والتكفير والهجره والجهاد اللي عندنا مش وهابيين
بالعكس على خلاف معها ومتسدقش كل اللي بيتقال عن الوهابيه او عن ابن
عبدالوهاب نفسه الا اذا قرأت كتبه تصرفات بعض اتباعه متعتبرش دليل ضده
لان تصرفات اتباع النبي عليه الصلاه والسلام اواتباع المسيح عليه السلام
ما تعتبرش دليل ضد النبي او ضد المسيح
واخيرا كتير مننا بيشوه مصر وسمعتها وسمعه اهلها بالخوض في حاجات مابيفهموش فيها والكلام بطريقه استعلائيه فاشيه وفيها الكتير من الصور النمطيه والتعميم وحتى الجهل الكامل بما نتحدث عنه فياريت الناس دي تسكت وما تتكلمش في اللي ما بتفهمش فيه وكفايه بقه استعلاء
anonymous
شكرا لرأيك
Post a Comment