على إسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء..أنا إسم مصر عندى أحب وأجمل الأشياء

على إسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء..أنا إسم مصر عندى أحب وأجمل الأشياء

Sunday, December 30, 2007

مشكلات المصريين الاقتصادية - 2


ملخص ما سبق

هو تشخيص للحالة المصرية. تشخيص استدعاه إجماع الجميع على أن هناك مرضا يعاني منه الوطن. فقلب الوطن مجروح لا يحتمل أكتر، كما قال إبراهيم رضوان بصوت منير شديد العذوبة. وأضاف: نهرب وفين هنروح لما الهموم تكتر. ويجيب: نحمي غصون الورد من دمع سال ع الخد، آه يا حبيبة الروح، قلب الوطن مجروح.

والإجماع العام على وجود "حالة" مصرية، استدعي من جانبي محاولة التعرف والفهم والتشخيص أملا في الوصول لـ "وصفة" تعالج وتخفف.

قلت سابقا إن مشكلات مصر تنقسم تحليليا إلى نوعين. الأول هو ما ينبع من خارج مصر ويؤثر على جميع دول العالم تقريبا. وحددت أهم أمثلة هذا النوع بالعولمة. أما الثاني فهو ما ينبع من داخل مصر ويؤثر بذاته كما أنه يضاعف ويضخم من آثار مشكلات النوع الأول الخارجية.

نقوم بتشريح الجسد المشكلاتي المصري لنفك التشابكات ونزيل التعقيدات. نحلل مصر إلى عناصرها الأولية: شعب. أرض. نظام سياسي. مجتمع.

في المرة السابقة قمنا بتعريف الشعب من حيث مستويات الدخل. قلنا أن هناك شريحتين من المعدمين الفقراء (30 مليون مصري). ثم شريحة كبيرة (15 مليون) ساقطة من الطبقة الوسطى. وشريحتين تمثلان الطبقة الوسطى (25 مليون). ثم شريحة طالعة من الطبقة الوسطى نسميها فوق المتوسطة (4 مليون). وأخيرا مليون مصري هو أبناء الطبقة الأعلى اقتصاديا في الدولة.

قلنا إن جميع المشكلات الخاصة بأفراد الشعب المصري هي ذات طبيعة اقتصادية تتعلق بالاحتياجات البيولوجية للمواطنين الذين هم أصلا.. بشر! يحتاجون لأكل وملبس ومسكن وترفيه وتعليم وعلاج وما إلى ذلك مما لا يُحصى! كل المشكلات الأخرى سيتم التعرض لها تباعا وفقا لارتباطها بباقي عناصر الدولة.


لا بديل عن بعض الدراسة المقارنة لأحوال الفقر في العالم وأحوالنا نحن مع الفقر عبر تاريخنا المديد. فنحن لا نعيش وحدنا على الكوكب، لا. ولا بدأت حياة مصرنا أول البارحة. التاريخ ملئ بالعبر التي تفسر الحاضر وتنير طرق المستقبل. الاقتصاد العالمي متشابك بشكل لا يسمح برفاهية الجلوس وإلقاء الأحكام الجزافية. النتيجة الوحيدة لخلط "الباطل بالعاطل" وتحميل نظام الحكم أو الحكومة فقط ودائما بالمسؤولية عن الفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية تؤدي إلى مزيد من التقهقر أو الثبات على ما نحن عليه في أفضل تقدير. يجب معرفة أين يجب أن يلام نظام الحكم وأين يجب ألا يلام. يجب في رأيي الاتفاق على أرضية مشتركة حقيقية بين جميع من يعشقون هذا الوطن من الأفراد. لا أثق بقوى المعارضة المنظمة في مصر. هي أقل تقدما بكثير من الشرائح الشابة من الطبقة الوسطى التي تتألم بصدق من حال مصر وتريد تغييره لأفضل. يجب التحكم في نوبات الغضب الهيستيري التي تدمر مستقبل أبناءنا. لا بديل عن فهم موضوعي متأني. لا بديل عن جيل جديد غير متشنج مهما كانت ظروف الوطأة الاقتصادية التي تضغط على أعصابه. لا أقصد أن تحدث استكانة العامة. أقصد استفاقة عقلانية واعية عامة بين صفوف الطبقة المتعلمة الشابة التي تعرف عن أحوال العالم والتي لا خلاف لها مع فكرة الدولة المدنية. لا أتحدث الآن مع الراغبين في التغيير الهيكلي الجذري للنظام السياسي المصري برمته وبكل ما يضمه من إطار الدولة ومؤسساتها ومجتمعها المدني وليس فقط نظام الحكم. سواءٌ عندي من يريدونها دينية متأسلمة أو ثورية مناضلة.

ماذا حدث في تاريخ المصريين من ناحية الفقر؟ عاش أجدادٌ لنا يا سادة في أزمانٍ حدث بها ما لا يتصوره أبناء هذا العصر. لا أعرف هل يعرف الجميع هذه الأحداث المتكررة كثيرا عبر تاريخ مصر أم لا. أكتفي بذكر هذه الكلمات من كتاب الأديب والمؤرخ الشهير جورجي زيدان "تاريخ مصر الحديث" عن مثال لهذه الأيام. ليس دفاعا عن الأوضاع الحالية ولا على طريقة "إحمد ربنا إنك عايش". فقط للمقارنة والاعتبار وضبط النفس الذي أرانا نفتقده كثيرا. تعالوا نرى ماذا قال جورجي زيدان في كتابه في صفحة 292 واصفا لحال المصريين عام 1201 ميلادية أيام سلطنة الملك العادل إبن أيوب عندما حدثت إحدى المجاعات التي كثيرا ما تكررت بسبب قحط ماء النيل في بعض السنوات، يقول جورجي:

"اشتد بالفقراء الجوع، حتى أكلوا الميتات، والجيف، والكلاب، والبعر، والأرواث. ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم (الأطفال)، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون، أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل. ورأيت صغيرا مشويا في قفة وقد أحضر إلى دار الوالي، ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه (!!) فأمر باحراقهما. ووُجد في رمضان بمصر رجل وقد جردت عظامه من اللحم فأكل وبقى قفصا..... وقد رأيت إمرأة مشججة يسحبها الرعاع في السوق وقد ظفر معها بصغير مشوي تأكل منه، وأهل السوق مذهولون عنها ومقبلون على شؤونهم"

لا أقول إن المصريين كانوا آكلي لحوم بشر! أقول إن أشد الفقراء منهم ثارت غرائزهم البيولوجية عندما اشتد بهم الجوع في أوقات كثيرة من تاريخ مصر. هذه الأيام كانت كما ذكرت عام 1200 ميلادية. وأظن الكثير يعرف أو سمع عن الشدة المستنصرية خلال فترة حكم المستنصر بن الظاهر الفاطمي في القرن الحادي عشر الميلادي. فإذا قال البعض الآن إننا في أسوأ عصور مصر عبر تاريخها، فأنا أعرف إنه – معذورا – متأثر بحالته النفسية وله كل الحق، ولكن هذا لا يصح الإيمان به؛ إذ أنه يضع الناس أمام بديلين لا ثالث لهما: إما اليأس أو الثورة. ولتبيين الآثار السلبية القاتلة لكل منهما، أحتاج إلى مقام آخر وليس هنا أو الآن.

التاريخ المصري ملئ بالعبر والدروس التي تتطلب فحصا حقيقا لنخرج مما أشعر به أحيانا من حالات دروشة جماعية، أو هوس بأساطير لا أساس لها، أو، في أفضل تقدير، خارجة عن سياقاتها، بما يخدم مصالح سياسية آنية. هذا عن التاريخ ولا أظنني حقا بحاجة إلى الاستطراد في شؤونه.

ماذا عن العالم الآن؟ أين نحن حقا فيه؟ هل نحن في أسفل سافلين كما تقسم صحف المعارضة المصرية والعربية فلا حل لنا إلا في ثورة راديكالية تطيح بكل شئ لدينا لنبدأ من جديد. أم نحن في أعلى عليين كما يقنعنا كتاب الحزب الحاكم فلا نحتاج لأكثر من شعب أفضل من هذا الذي لا يعرف كيف يُحكَم؟ أخصص المقال القادم لمقارنة أحوال مصر بغيرها من دول العالم اقتصاديا وتنمويا. متحريا التبسيط بأكثر ما أستطيع. طالبا التوضيح على أوضح ما قد يكون. شارحا مشكلات المصريين الاقتصادية. محددا أهم سماتها.

فحتى نلتقي.. للجميع التحية والاحترام

Monday, December 17, 2007

مشكلات المصريين - 1




نتحدث عن مشاكل مصر.. نظرنا إليها من بعيد أولا.. ثم أجملنا منهج النظر القريب إليها.. فقلنا إن الدولة عبارة عن شعب وأرض وحكومة ومجتمع.. والآن نبدأ بالحديث عن مشاكل الشعب من حيث هم أفراد

نجد أن كل ما يتعلق بهذا القسم له طبيعة مادية.. أمثلة ذلك الغذاء.. إيجار المسكن.. المواصلات والانتقالات.. الملابس.. أتعاب أطباء وأدوية.. مصاريف تعليم.. أي أننا نتحدث عن الأموال.. الفلوس.. النقود.. الجنيه المصري.. أي مشكلة من القسم الأول هي مشكلة مادية.. مشكلة فقر.. نقص دخل.. بطالة.. صعوبة ممارسة نشاط اقتصادي.. عدم قدرة على الزواج بسبب ضيق ذات اليد.. فضلا عن عدم القدرة على القيام ببعض الترويح عن النفس كالذهاب للشواطئ وأماكن الترفيه.. وكل ما سبق يؤدي إلى آثار معنوية رهيبة تتمثل في الإحباط..اليأس.. الإكتئاب.. الحزن الدفين والصريح.. الشعور القوي والمستمر بالإهانة.. بالذل.. بعدم القيمة.. عدم الأهمية.. غياب الكرامة والاعتبار.. بعدم الانتماء.. بالغضب.. بالرغبة في الانتقام.. يستحيل تحقيق أي نهضة بأي شكل أو أي تنمية من أي نوع إذا كان هذا هو حال أي شعب.. لماذا؟

الإنسان كائن حي له احتياجات بيولوجية قبل أي شئ.. لم تبدأ الحضارة إلا بعد أن أمن الناس جوعهم.. أدى اكتشاف الزراعة ومن قبلها النار إلى اطمئنان بعض البشر لمستقبلهم القريب.. فاستقروا وصنعوا مجتمعا إنسانيا.. وكانوا كلما استراحوا بيولوجيا بصورة أكبر.. شعروا بسعادة أكبر وتسامح أكثر.. ووجهوا جزءا من مواردهم للفن والثقافة.. تشابك التطور والتغير حتى وصلنا لعالم اليوم.. لكن الحقيقة الأساسية ظلت كما هي وإن توارت قليلا عن الأنظار: غريزة البقاء تحتم على الإنسان أن يهتم قبل كل شئ بسد حاجاته البيولوجية هو وأحبائه من البشر.. يأكل ويضمن استمرار وجود الغذاء.. يتداوى إذا مرض ويضمن استمرار قدرته على الحصول على الدواء.. يسكن في مكان آمن.. يكسي جسده وجسد أبناءه.. يتزوج ويتناسل.. ومن أجل كل هذا هو يحتاج لنقود.. والنقود في المجتمعات الحديثة تأتي من العمل.. سواء لدى شخص آخر أو لدى نفسه.. والعمل يحتاج لمستوى معين من التعليم والمعرفة.. فإذا عجز الإنسان عن تلبية ما سبق من احتياجات أو بعضها.. أو لباها جميعا بمستوى أقل من الحد الأدنى الذي يشعره بالأمان والاطمئنان على بقاءه وبقاء أولاده أحياء كرماء غير ممتهنين.. فإن الاندهاش من تفشي الأمراض في المجتمع.. وانتشار الظواهر الغريبة والشاذة.. ومن انهيار الأخلاق ومظاهره.. وذيوع الدروشة والتصوف والهلوسة الجماعية.. والهجرة والجاسوسية والخيانة.. وكل مصائب المجتمعات وبلاويها.. يصبح الاندهاش من هذه الأمور كاستغراب هطول السيول بعد رؤية السحاب الأسود الكثيف المتجمع فوق الرؤوس.. أو كدهشة من كان يتوقع حصول فريق قطر لكرة القدم مثلا على كأس العال.. ولم يتحقق توقعه

كيف تتوزع الفلوس بين المصريين؟ الواقع أننا نتحدث دائما عن المصريين كأنهم يمثلون طبقة واحدة أو شريحة اقتصادية موحدة.. بينما أن الواقع يقول أنهم يتمايزون اقتصاديا.. وينقسمون لشرائح ودرجات.. والأرقام التالية تفصل المجمل وتشرح المبهم.. وهي تقريبية للتسهيل وتستند إلى العديد من المصادر والاجتهاد الشخصي، ومن أهم المصادر الممكن مراجعتها بسهولة على الإنترنت ما يلي

http://www.unsystem.org/scn/archives/egypt/begin.htm#Contents

http://siteresources.worldbank.org/DEC/Resources/84797-1104785060319/Cairo_ECES_1210final.pdf

http://64.233.183.104/search?q=cache:E3XZWTqP8rIJ:www.delta.ens.fr/XIX/datasources.rtf+income+distribution+in+egypt&hl=en&ct=clnk&cd=25

http://earthtrends.wri.org

https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/eg.html

http://www.encyclopedia.com/doc/1G1-16617436.html

http://www.montana.edu/econ/djyoung/econ302/Growth-Policy1.pdf

بالإضافة لبعض الكتب والدوريات

وأود الإشارة إلى نقطتين.. الأولى تتعلق بتقريب الأرقام للتسهيل دون الإخلال بمغزاها ودلالتها.. والثانية تختص بعدم وجود بيانات مفصلة عن التقسيم الداخلي للطبقات الاقتصادية.. واستنادا من قبلي لمعلومات أخرى ربما تكون غير متاحة حاليا للاطلاع العام.. أطرح تقسيما شرائحيا يقوم على نظرتي الشخصية للبيانات والأرقام.. وأهم نقطة أرجو ألا تغيب عن أي قاري هي أننا نتحدث عن متوسطات حسابية.. أرجو التأكد من فهم هذه النقطة بشكل كامل قبل استكمال القراءة

ــ

في القاع نجد حوالي 15 مليون بلا دخل.. نعم.. بلا دخل.. يعيشون على الصدقات والتسول والإعانات والأعمال الدنيا غير المنتظمة والمتقطعة.. هم الفقراء المعدمون.. هم المشردون والضائعون.. ووصف بلا دخل طبعا هو مجازي أقصد به توضيح الفقر المدقع والعوز المذل.. ومعنى الفقر المدقع ببساطة واختصار هو أن هؤلاء الملايين الخمسة عشر يستطيعون بالكاد البقاء أحياء في ظل ظروف حياة أقل من الحيوانية

ونستطيع للتوضيح أن نحدد أعلى دخل متوسط لأي منهم بمبلغ 120 جنيه في الشهر

يعني 15 مليون شخص.. رجل وامرأة وطفل وطفلة.. هم الأفقر.. يحصلون على حوالي 30 مليار جنيه مصري من إجمالي حوالي 700 مليار جنيه مصري هو الدخل القومي أو الناتج الإجمالي.. يعني أفقر 20 % من المصريين يحصلون على حوالي 5% من الدخل القومي

ثم نجد الخمسة عشر مليون التاليين.. 15 مليون آخرين في الشريحة الثانية من الفقر.. وهم من بلا دخل تقريبا.. بعضهم أصغر صغار موظفي الحكومة وأجهزتها.. وبعضهم مزارعين أجراء.. وبعضهم عمال وحرفيين في القرى والصعيد.. وأعلى دخل متوسط للفرد منهم يصل لحوالي 300 جنيه في الشهر.. وتقديرات الدخول هنا تشمل أي أعمال تندرج تحت الاقتصاد غير الرسمي وتُمارس بلا أوراق أو تنظيم رسموهؤلاء هم الفئات الأقل عليما ومهارات وقدرة على المشاركة في الاقتصاد.. هؤلاء الـ 15 مليون يحصلون على حوالي 70 مليار جنيه مصري من إجمالي الدخل القومي.. يعني 20 % من الشعب نصيبهم يبلغ تقريبا 10% من الدخل القومي

وهكذا يكون لدينا 30 مليون مصري هم الفقراء.. الفقراء يا سادة وليس محدودي الدخل.. هؤلاء أظن أن لا أحد ممن يقرأون هذه السطور الآن قد يعرف أي من هؤلاء الثلاثين مليون.. ربما تقابلن بعضهم عندما يأتون للخدمة في البيوت.. ولكنكم تشاهدونهم كثيرا في التلفزيون والجرائد.. هم أهالي الصعيد.. هم أبناء قلعة الكبش.. وهكذا.. هؤلاء الاربعين في المائة من الشعب المصري الشقيق يحصل على دخل يساوي تقريبا 14% من الدخل القومي.. هؤلاء يتعين عليهم أن يأكلوا ويشربوا ويتداووا ويتعلموا إذا أمكن ويستهلكون كهرباء ومياه وكل ذلك بحوالي 1000 جنيه في الشهر في المتوسط للأسرة المكونة من ستة أو سبعة أفراد!!.. أتحدث عن أسعار 2006.. 30 مليون بني آدم يشكلون 40 % تقريبا من سكان مصر.. ونطلق عليهم لأغراض الدراسة إسم.. الطبقة الدنيا

فوق الثلاثين مليون الأكثر فقرا .. تأتي شريحة ضخمة أخرى تقع بين الطبقة الدنيا والطبقة المتوسطة.. هذه الشريحة تتكون أساسا من الساقطين من الطبقة الوسطى وبعض الصاعدين من الطبقة الدنيا.. هم حوالي 15 مليون مصري ومصرية من محدودي الدخل.. يعيشون على دخول ثابتة معلومة تأتي من الحكومة.. أو من مهن حرة بسيطة.. من الزراعة.. من مصانع القطاع العام أو ما تبقى منها.. مدرسون.. أطباء شبان.. مهندسون.. جامعيون حكوميون.. ومتوسط دخل الفرد من هذه الشريحة لا يزيد عن حوالي 500 جنيه أو 2500 جنيه شهريا للأسرة المكونة من 5 أفراد لتلبية جميع احتياجاتها.. هي احتياجات تفوق كثيرا احتياجات الطبقة الدنيا.. لأن التطلعات الاجتماعية والتعليمية والمادية تكون أعلى لأبناء هذه الطبقة.. فأبناء الطبقة الدنيا لا يعرفون أو يطلبون كمبيوتر وإنترنت.. أو دراجة وأسبوع في جمصة أو الاسكندرية.. بينما هؤلاء يطمحون لذلك ولا يجدونه غالبا.. فيرتفع شعورهم بالفقر والحرمان

إذن.. 15 مليون مصري.. يشكلون 20% من سكان مصر.. يحصلون على 100 مليار جنيه سنويا.. يعني حوالي 14% من الدخل القومي

يبقى عندنا كام.. 30 مليون فقرانين دقه.. العيله منهم قرطة عيال وعايشين عيشة أسوأ من الموت.. وفوقيهم 15 مليون تانيين أفقر إلا قليلا.. العيلة منهم 5 أو 6 وتطلعاتهم عالية وأحلامهم المادية أكبر كثيرا من قدراتهم المالية.. نضيفهم على بعض.. لنحصل على 45 مليون مصري (60% من الشعب) يحصلون على 200 مليار جنيه سنويا بما يعادل تقريبا 28% فقط من الدخل الإجمالي لمصر

هذا هو المعدل الذي أعتقده صحيحا للفقر في مصر.. 60% وليس كما تردد الحكومة 20% فقط.. الحكومة تتحدث عن الشريحة الأولى من الطبقة الدنيا.. والعالم يتحدث عن المحرومين.. والمحرومين جدا.. المحرومين جدا في مصر أراهم هؤلاء.. 45 مليون مصري تقريبا

طيب.. لا نتعجل الاستنتاجات.. نحن مازلنا في بداية البداية

نذهب إلى ما تبقى من الطبقة المتوسطة الشهيرة

15 مليون.. الشريحة الأدنى في الطبقة الوسطى .. موظفي الحكومة حتى درجة مدير إدارة.. مهن حرة متنوعة.. أنشطة تجارية صغيرة.. موظفين في شركات قطاع عام أو قطاع خاص صغير أو غير كفء.. صغار العاملين في الشركات أو البنوك الأجنبية.. عمال في مصانع أجنبية أو مصرية كبيرة.. مزارعون مالكون لأراضي صغيرة المساحة.. وغير ذلك على نفس المنوال.. ولا يزيد متوسط دخل الفرد الشهري هنا عن حوالي 1000 جنيه في الشهر

20 % آخرين من المصريين يحصلون على حوالي 21% من الدخل أو 147 مليار جنيه مصري سنويا

لم تعد الطبقة الوسطى تنقسم لثلاثة شرائح كما كان سائدا.. أصبحت اثنتين فقط.. حيث الشريحة الأعلي من الطبقة الوسطى.. فقد انتقلت لتستكمل تشويه هيكل توزيع الدخل في مصر.. أصبحت معلقة بين الطبقة العليا وبين الطبقة الوسطى..

المهم.. الشريحة الثانية تتكون من حوالي 10 مليون مصري.. هم موظفي الحكومة حتى درجة مدير عام.. ملاك أراضي محدودة.. أصحاب عقارات.. موظفين متوسطين في شركات أجنبية أو متعددة الجنسيات.. بنوك.. أنشطة تجارية محدودة.. مديرين عمال في مصانع كبيرة.. مرتشون صغار.. وهؤلاء لا بزبد متوسط دخل أي منهم عن حوالي 1500 جنيه في الشهر.. ويصل نصيب هذه الشريحة من الدخل القومي إلى ما يصل لـ 140 مليار جنيه سنويا.. 20% من الدخل القومي تقريبا

إذن... طبقة متوسطة تبلغ حوالي 25 مليونا وتحصل على 287 مليار جنيه سنويا كدخول.. يعني 25% يحصلون على دخول تساوي 40% تقريبا من الدخل

يتبقى من المصريين كام؟؟ حوالي خمسة مليون

من هؤلاء الخمسة مليون.. هناك حوالي أربعة ملايين هم الفئة الأعلى سابقا في الطبقة المتوسطة.. ولكنهم حاليا هم طبقة مستقلة بذاتها.. لا يمكن حسبانهم متوسطين.. هم فئة جديدة بين الوسطى والعليا.. تعيش بثقافة الوسطى وتنفق ببراح يد العليا.. كبار موظفي الشركات الأجنبية والمتعددة الجنسيات.. رجال الأعمال.. بعض الفنانين ولاعبي الكرة.. صحفيون ومفكرون وأدباء ومثقفون مشاهير.. هم كبار قيادات ومسؤولي الحكومة ممن يتعاملون ماليا وفق كوادر خاصة أو يتقاضون بدلات وإضافات تبعدهم جذريا عن فئة موظفي الحكومة.. أطباء كبار ومديري مستشفيات خاصة كبيرة.. ولا يزيد متوسط دخل الفرد هنا عن حوالي 4000 جنيه شهريا.. أذكر بأهمية فهم معنى المتوسط.. ويبلغ نصيب هذه الشريحة من الدخل الإجمالي لمصر حوالي 144 مليار جنيه.. هي نظير خدماتهم لعملية الإنتاج

وأخيرا يتبقى أقل من مليون مصري.. في القمة.. رجال أعمال كبار.. رجال أعمال أطباء.. رؤساء شركات ضخمة.. نجوم المجتمع من الوزن الثقيل.. أعيان الأرياف.. لصوص كبار.. ويصل متوسط دخل الفرد في هذه الشريحة إلى 70 ألف جنيه شهريا.. أي أن هذه الفئة.. مليون شخص.. تحصل على حوالي 70 مليار جنيه مصري سنويا كمقابل لمساهمتها في الإنتاج الإجمالي.. مليون شخص يحصل الواحد منهم على متوسط يبلغ حوالي840 ألف جنيه سنويا.. يعني هذه الشريحة الأعلى تحصل على ما يصل إلى 10%

5 مليون مصري.. يحصلون على 213 مليار جنيه

أغنى 6.5 % من المصريين.. 30% من الدخل القومي

..

الخلاصة

ينقسم المصريون اقتصاديا كما يلي

طبقة فقيرة هم حوالي 60 % من الشعب المصري يحصلون على 30% من الدخل

طبقة متوسطة تمثل حوالي 33% تحصل على حوالي 40% من الدخل

طبقة غنية تمثل حوالي 7% من الشعب تحصل على حوالي 30 % من دخل مصر

ــ

قبل أن أستكمل التحليل في المرة القادمة.. أسرع بتوضيح نقطة شديدة الأهمية

لا أقصد مما سبق أن هناك سرقة.. أو أن البلد منهوبة.. ربما كانت كذلك.. أو بالتأكيد هناك نهب واستلاب.. لكني لا أرى أن هذه المشكلة!! .. ومن لا يقتنع فعليه بدراسة حالة إندونيسيا وغيرها في أمريكا اللاتينية تحديدا.. ليرى حجما عملاقا من الفساد.. ولكن مع تنمية ونمو أعلى.. وإدارة اقتصادية لم يمنعها الفساد من تحقيق تحسن حقيقي ملموس للدولة ككل وللفئات الأفقر تحديدا.. لا يعني هذا أن إندونيسيا ليس بها فقر!! ولكنه يعني أن الفساد مهما كان حجمه لا تُقارن آثاره بالكوارث الناتجة عن الجهل.. سوء الإدارة.. تراكم سنوات التخبط والتدمير.. احتلال أجنبي وسيطرة إقطاعية بشعة لقرون.. حكم عسكري لا فكرة لديه عن علم إسمه إدارة الدول.. لا فكرة لديه عن شئ إسمه الاقتصاد السياسي.. لا معرفة عنده بكيفية الحكم الناجح والاستفادة من موارد الدولة

الأرقام السابقة لا تعني فقط أن هؤلاء الملايين الخمسة يحصلون على 30% من الدخل القومي وحسب.. إذ أن طلاب أولى اقتصاد يعرفون أن الدخل القومي هو الوجه الآخر المساوي تماما للناتج القومي.. يعني أن هؤلاء الملايين الخمسة تحصل على هذا القدر الكبير من الدخل لأنها تنتج ما يساويه.. شئنا أم أبينا.. هذا هو الواقع.. الخلل ليس في توزيع الدخل.. الدخل لا يوزع أصلا إلا في الاقتصادات المركزية التي يضرب الفساد الحقيقي في أساساتها حتى تنهار تماما.. الإنتاج هو الذي يجب أن يتوزع.. فإذا توزع الإنتاج بشكل جيد فإن الدخل يتوزع بشكل جيد.. الدخل إبن الإنتاج.. أنت تعمل فتتقاضى دخلا وليس العكس.. أنت تملك عقارا تؤجره فتتقاضى دخلا وليس العكس.. إذن فالفساد في هذه الحالة لا يكون في توزيع الدخل.. وإنما يكون في عدم إتاحة فرص متساوية لجميع المواطنين تمكنهم من المشاركة في عملية الإنتاج.. والأسوأ من ذلك هو إتاحة فرص أفضل لبعض المواطنين تساعدهم على تحقيق إنتاج أكبر ومن ثم دخل أعلى.. وهذا بلا شك واقع في مصر

نلتقي قريبا إن شاء الله لاستكمال الحديث عن مشاكل الفقر والنمو والتنمية الاقتصادية في مصر.. فحتى نلتقي.. تحياتي واحترامي للجميع

Sunday, December 9, 2007

تشخيص الحالة المصرية – رؤية من قريب

توضيح واجب

.............

أستجيب لطلبات السادة القراء بتقسيم المقال الواحد لأجزاء إذا لزم الأمر ذلك.. وأشرح موضحا إنني فقط كنت أخشى على وحدة النص وتماسك خط السرد.. ولكن بما إنني أؤمن في قول الساحر نزار قباني بأن الشعر رغيف يقدم للجمهور .. وأن الأحرف أسماك والماء هو الجمهور.. فما بالي بما هو ليس بشعر؟ وما فِعلي بأحرفي الصغيرة بجانب أحرفه العملاقة؟

ولكل ذلك.. أشكر كل من اهتم بالتعليق والنصح.. أشكره بكلمة الشكر مرة.. وأشكره بفعل الشكر مرة أخرى بالاستجابة للنصح

////////////////////////

تلخيص لما سبق

..............

أتحدث عن رؤيتي لمشكلات مصر في بداية الألفية الثالثة

قلتُ إن أكبر كارثة تواجهنا في رأيي هي عدم وجود خريطة لهذه المشاكل

نتيجة ذلك تخبط كامل وفوضى وصياح هستيري وجعجعة منزوعة الطحن

أحاول أن أرسم هذه الخريطة لترتب الأولويات وتبدي المشاكل الأكبر والأهم والأكثر تشعبا وتأثيرا

تحدثت أخيرا عن نوعين أساسين لمشكلات مصر.. نوع يضم مشكلات عالمية لها انعكاسات محلية على جميع دول العالم بنسب متفاوتة.. وقلت أن أهم أمثلة هذا النوع تضم آثار العولمة والاقتصاد الجديد السائد حاليا في العالم.. والتطرف الديني والتعصب والتزمت والظواهر المرتبطة بردود فعل قطاعات عريضة من شعوب العالم على ضغوط الحداثة والتحديث.. فارتد الملايين إلى جذورهم الدينية علهم ينجون من الهاوية

أعلنت رأيي أن هذا النوع من المشاكل ليس أولوية لنا حاليا.. أولا لأنه أكبر كثيرا من قدراتنا الحالية إذ أنه يتعلق بنظام العالم كله وتفاعلات تفوق كثيرا قدرات أي دولة واحدة أو حتى دولة عظمى كالولايات المتحدة.. ثانيا لأن ما يضخم آثاره ويعنفها هو النوع الثاني من المشكلات.. وهو موضوع مقال اليوم.. والمقالات القادمة جميعا

ـــــــــــــ

رؤية من قريب

أما النوع الثاني من مشكلات مصر.. فهو هدفنا وغايتنا.. وهو ما لا يخرج عن نطاق إرادتنا وناتج فعلنا وتصرفنا

وهذا النوع يضم مشاكل تتعلق بالعناصر الأربعة التي تتكون منها أي دولة بمعناها الحديث.. أي الدولة القومية أو الـ Nation State

ما الدولة؟ مم تتكون؟ ما هي العناصر التي بدون أي منها لا نكون نتحدث عن دولة سياسية بالمفهوم الحديث

الدولة الحديثة منذ بدايتها التقريبية في القرن السابع عشر بعد صلح وستفاليا الشهير عام 1648.. وتأكيد شكلها المعاصر بعد الثورة الفرنسية الخالدة عام 1789.. هي عبارة عما يلي: عدد ما من البشر.. يقيمون فوق أرض محددة بحدود جغرافية أو سياسية.. يصنعون نظاما لإدارة شؤونهم وقيادة أفعالهم.. وهو نظام له جوانب عدة.. جانب سياسي.. وثاني دستوري قانوني.. وآخر اقتصادي.. يسمى إجمالا النظام السياسي.. وينتج من تفاعل هذا العدد من البشر مع بعضهم البعض.. واشتراكهم في الحياة بكل ما فيها من أنشطة بلا نهاية واتفاقات واختلافات وطموحات وأهداف وأفراح وأتراح وانتصارت وانتكاسات.. أن يتكون منهم مجتمعٌ.. له خصائص وصفات وثقافة.. ويتولد في نفوسهم انتماء ما وولاء ما لهذه الدولة

يعني باختصار.. الدولة هي شعب.. يعيش على قطعة من الأرض.. تحكمه حكومة مُعترفٌ لها بشرعية الحُكم وقوة القبول العام.. ويتفاعل الشعب سويا ليكوِّن مجتمعا

ولا مجال لمناقشة عنصر الاعتراف الدولي الذي يراه البعض شرطا لازما أيضا لقيام الدولة.. وفي كل الأحوال هو غير ذات صلة بموضوعنا.. وغير ذات صلة بمصر.. إذ أنها من أوائل التنظيمات السياسية التي عرفها تاريخ حضارة الإنسان.. ولا يملك إنسانٌ أو دولة ألا تعترف سياسيا بها وبوجودها وبكيانها

إذن.. نتحدث عن.. شعب.. أرض.. حكومة.. مجتمع

وبداهة.. فالمشكلات المصرية لا وجود لها إلا فيما يتعلق بأي من هذه العناصر الأربعة.. وهذا الفصل والتمييز هو لأغراض التحليل.. ولا فائدة أبدا من خلط الأمور وتعميم المشاكل.. اللهم إلا لأغراض السياسة والوصول للغوايا

فأولا.. هناك المشاكل المتعلقة بالشعب.. فهي كلها تتعلق مباشرة بحياة البشر وبقاءهم.. مستوى حياة ملايين المصريين ودرجة رفاهيتها أو غُلْبِها.. وضمانات بقاءهم أحياء.. وما يشمله ذلك ويتعلق به من أمور تخص غذائهم.. صحتهم.. مسكنهم.. ملبسهم.. وظائفهم.. تعليمهم.. تنقلاتهم.. وانعكاسات ذلك المباشرة والكاسحة على شعور كل منهم بذاته وكرامته.. وما غير ذلك من احتياجات اقتصادية تمليها حتميات البقاء وضروريات الحياة.. وانعكاسات نفسية تحتمها طبيعة البشر وفطرة الخَلْق


وثانيا هناك ما هو متعلق بالأرض.. كاحتلال لا قدر الله.. أو تهديدات للأمن القومي تأتي من خارج حدود الوطن وتؤثر على رفاهية مواطنيه أو سلامة أراضيه أو استقرار مجتمعه أو نظامه السياسي


أما القسم الثالث من المشكلات فيتصل بالسياسة والحكم.. كيف نظم الناس قضية السلطة.. لمن أعطوها.. كيف يتناقلونها.. من يقود.. من يدير.. ما هي المعايير.. من يراقب.. من يحاسب.. كيفية إدارة موارد الدولة سواء بشرية أو مادية.. وما إلى ذلك من أمور.. فالناس منذ فجر التاريخ يطلبون سلطة عليهم تحمي وتنظم وتخدم وتراقب وتؤمن وتفرض.. أما كيف كان شكل هذه السلطة التي خولها الناس لبعض منهم.. فقد اختلف كثيرا عبر التاريخ والأزمنة.. ولمزيد من الدقة سنطلق على هذه السلطة إسم "النظام السياسي".. ولا يخلطن أحدُكُم بينه وبين "نظام الحكم".. فنظام الحكم لا يشير إلا لشخص مَن في السلطة.. أو لنقل شخوص من يقودون النظام السياسي ويوجهونه والتفاعلات الخاصة بينهم.. أما النظام السياسي فيضم -فضلا عن نظام الحكم- حكومة ووزارات ودستور وقوانين وآليات وعمليات وأحزاب سياسية ومجتمع مدني وصحافة وإعلام.. وغير ذلك من عناصر عديدة ومختلفة.. ولكنها ترتبط جميعا في كونها تمثل البنية التحتية السياسية لطريقة تنظيم شعبٍ ما لكيفية إدارة شؤونه وحُكم أموره


أما القسم الرابع من المشكلات فيخص المجتمع.. من حيث هو كيانٌ واحدٌ ذو خصائص نفسية يمكن التعرف عليها.. فالمشكلة حين تتعلق بشخص واحد كأن يكون فقيرا أو مريضا أو محتاجا.. تختلف عنها عندما تخص مجموعة من البشر تشكل مجتمعا واحدا.. ولا فرق كبير بين أن يكون مجتمعا صغيرا محدودا.. كمجتمع سائقي التاكسيات مثلا.. أو مجتمعا أكبر.. كمجتمع الصعيد.. أو شامل عام.. كالمجتمع المصري كله. وفي هذا الشأن وللتوضيح المؤقت.. أضرب مثلا بمشكلات أهل الصعيد.. مثل الأخذ بالثأر.. فهي ليست مشكلة فردية مادية مثل النوع الأول.. ولا تمس الأرض والتراب الوطني كثاني أقسام المشاكل.. ولا ارتباط مباشر لها بالنظام السياسي.. ولكن هي مشكلة تخص طائفة من الناس يشتركون في ثقافة خاصة بهم.. ويتبعون عادات ورثوها عن آبائهم الأولين.. وتتعدد المشكلات الاجتماعية لتضم أشياء مثل قهر المرأة والازدواجية الذكورية والسلفية الدينية والاغتصاب وسعد الصغير وثقافة الازدحام المروري وجرائم الشرف والتفاخر الاستهلاكي والتظاهر الخداع والسلبية والتواكلية والمحسوبية والمهلبية أيضا.. أحيانا


وأكتفي حاليا بهذا القدر.. حتى يحين موعد اللقاء القريب إن شاء الله.. ونبدأ فيه بتشريح المشكلات من النوع الأول.. أي مشكلات الشعب.. مشكلات المصريين

ولكن قبل أن أفعل ذلك.. واحتراما مني لا أستطيع تجنبه للدقة العلمية وأمانة التحليل.. يجب أولا أن نعرف كلمة "الشعب".. فلا أظن أبداً أن للشعب مشكلاتٌ واحدة.. والمرجح عندي أن كل طبقة منه أو شريحة أو فئة تعاني من مشكلاتها الخاصة.. ومما هو مستقر في أدبيات التحليل السياسي والاقتصادي بل والاجتماعي والثقافي.. أن التقسيم الطبقي لأي مجتمع هو من أهم وسائل التمييز والتحليل.. فمشكلات فقراء الطبقة الدنيا تختلف كثيرا جدا عن مشاكل فقراء الطبقة الوسطى.. وجذريا عن معاناة أغنياء الطبقة الوسطى.. وثقافة الوسطيين هي غير ثقافة الفقراء.. وغير نمط حياة الأغنياء.. وأتمنى ألا يردد أحد لنفسه إن الأغنياء بلا مشاكل.. حيث أن هذا رأي غير صحيح.. فلكلٍ مشاكله حسب نظرته واحتياجاته

إذن.. نلتقي أولا قريبا مع محاولة اجتهادية لتعريف المصريين تعريفا مبنيا على أساس دخولهم وطبقاتهم الاقتصادية/الاجتماعية

فحتى نلتقي.. أحيي كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد

Saturday, December 1, 2007

تشخيص الحالة المصرية – رؤية من بعيد


الحاجة إلى تحليل المشكلات المصرية تحليلا شديد الدقة والمنهجية
إذا نظرنا إلى ذلك العملاق الأخطبوطي الهائل من المشاكل والأزمات والأخطار في مصر.. سنجد إستحالة اقتحام هذا لجسد اللانهائي بغرض القضاء عليه.. إلا بتفكيكه لوحدات أصغر وأضعف.. وكل وحدة لعناصرها الأولية.. وهكذا حتى تكتمل الصورة.. وتضم كل الأسباب والنتائج والآثار والمضاعفات

وهذا التفكيك بالطبع هو تفكيك معنوي وهمي.. بغرض تحليل والتفهم والتخطيط.. أما في الواقع والمعاش.. فالمشكلات راكبةٌ فوق بعضها البعض.. لو لمست واحدةً.. تتداعى لها سائر المشاكل بالأنين والشكوى

وسيظهر لنا مع التحليل أن المشاكل في مصر نوعان.. من حيث أسبابهما.. وإمكانية حلهما

النوع الأول من المشاكل في مصر: لا حل له لأن أسبابه ومصادره ليست في مصر إنما هي عالمية كونية.. تؤثر في العالم كله
أما الأول فلا حل له ولا دواء.. ولا ينبع من مصر ولكن يؤثر فيها.. ويستحيل القضاء عليه نهائيا أو إزالته من الوجود.. وإنما من الممكن تحليل كيفية تفاعله مع مشاكل الداخل.. إذ أنها تضاعف آثاره وتضخم سلبياته.. فنعرف كيف يمكننا تحديد مقدار واتجاهات هذه التأثيرات.. فنردها لأسبابها ونحاول قدر الممكن تهوين سلبياتها

أهم أمثلة هذا النوع من المشاكل هي تلك التي يسببها النظام السائد في العالم.. وهو نظام رأسمالي اقتصاديا وسياسيا.. طبقي اجتماعيا.. أبوي اجتماعيا وثقافيا
فالمشكلات من هذا النوع تفرضها ظروف التاريخ البشري وتحتمها قوانين تطور المجتمعات.. وهي قوانين صارمة كقوانين الفيزياء والكيمياء وسائر العلوم الطبيعية.. وفي تحليل تاريخ العالم ما يكفي ويزيد من أدلة على وجود هذه القوانين وصرامتها

وعلى سبيل المثال.. فإن هناك نظاما اقتصاديا يسود العالم منذ بدء الحضارة الإنسانية.. وهو النظام القائم على سيطرة كل من الطبقة الاقتصادية/الاجتماعية الأعلى على ما دونها.. والرجل/الأب على المرأة/الأم.. وأصحاب رؤوس الأموال على أصحاب قوة العمل.. وللاختصار نسميه النظام الطبقي الأبوي الرأسمالي.. وما لنا الآن أن نناقش محاسن أو مثالب هذا النظام.. فما استقر وحكم تطور العالم عبر قرون إلا لأنه أشبع احتياجات معينة لطبقاته الأقوى ذات القدرة على فرض إرادتها.. فبغض النظر عما نعتقده من فضله أو شره.. إلا أن إنكار وجوده وقوته واستقراره يعد من قبيل العناد اللجوج والتمنيات الخيالية

تاريخ النظام
هذا النظام الطبقي الرأسمالي السائد من أكثر من عشرة آلاف سنة له تجليات وصور مختلفة.. فهو زراعي اقطاعي تارة يسترق الرق ويستعبد العبيد.. ثم هو صناعي رأسمالي بعد ذلك يستغل العمال ويسيطر على الأجراء.. وفي تطوره هذا فهو محكوم بتغير وسائل إنتاج البشر لاحتياجاتهم.. وما تخلقه الوسائل المستحدثة من علاقات جديدة بين عناصر الانتاج المختلفة.. وهذه العلاقات الجديدة تؤسس بالضرورة وتلقائيا ثقافة جديدة.. ويمكن تمثل الفرق بوضوح لو قارنت بين ثقافة المجتمعات الريفية والقيم السائدة فيها وثقافة المجتمعات الصناعية والقيم الحاكمة لها.. فتجد الاختلاف هائلا.. كأن تجد تشابها بين ثقافة أغنياء الضواحي الراقية في القاهرة وحولها وبين نظرائهم في مانهاتن أو لندن أو طوكيو أكثر مما تجده بينهم وبين مواطنيهم المصريين في سوهاج والمنيا وحتى في قلب القاهرة الشعبي

العولمة الاقتصادية
والآن.. وفي العصر الحاضر.. تعاني جميع دول العالم – بدرجة أو بأخرى – من الصورة الجديدة لهذا النظام العالمي الشامل والمتمثلة في العولمة.. والعولمة بصورتها المعاصرة ظهرت كنتيجة لاختفاء المعسكر الشرقي اليساري من العالم في القرن العشرين.. حيث أدى هذا لامتداد رأسمالية الاقتصاد لنصف العالم غير الغربي.. وساد الاقتصاد الحر وآلياته وثقافته في كل دول العالم تقريبا.. واستفاد التقدم العلمي والاقتصادي من إضافة أضعاف مضاعفة من قوة العمل ورأس المال الصيني والروسي والهندي.. مما أدى لتسريع معدلات النمو الاقتصادي العالمي بشكل غير مسبوق قبلا.. وظهرت رفاهية لم يكن ممكنا تخيلها ينعم بها أغنياء العالم.. كما وصل البحث العلمي والتطبيقات التكنولوجية للعلم لمستويات غير مسبوقة في تاريخ البشر
تطور المجتمعات البشرية
وكعادة القوانين الاجتماعية.. لا تتغير بتغير الزمن طالما ظلت الأرض كما هي.. والإنسان هو نفس الكائن الحي.. فكان حتميا أن تؤدي الطفرة الاقتصادية الإنتاجية والعلمية والإدارية والعسكرية إلى تغيرات في جميع أوجه الحياة بما يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة.. والتناسب نوعين.. إيجابي وسلبي.. فالإيجابي يمارسه من يرى الأوضاع الاقتصادية الجددية هذه مفيدة له أو لدولته بشكل أو بآخر ويرغب في تثبيتها واستمرارها.. فيعمل على تغيير الظروف الاجتماعية والثقافية والفلسفية والقيمية بما يثبت النظام الاقتصادي ويعززه.. والسلبي يضطلع به من يرى هذه الظروف الاقتصادية ضارة ومؤذية له أو لبلده.. فيعمل على تثبيت والحفاظ على ما هو سائد ومستقر في مجتمع من علاقات وثقافة ورؤى للعالم.. وقد يعمد للمبالغة في التمسك بالأصول والجذور كرد فعل على شعور داهم بالخطر من النظام الاقتصادي الجديد

الاقتصاد السياسي
ولا أعلم إن كان الكل يتفق معي في أسبقية دور الاقتصاد أم لا.. فالمعلوم أن الإنسان كأي كائن حي تملي عليه غرائزه أولا وقبل أي شئ أن يحافظ على بقاءه.. ونحن كلنا نعلم فيما أظن أن غريزة البقاء هي الأقوى في كل الكائنات الحية

هل اتضحت العلاقة بين البقاء والاقتصاد؟.. أظنها بانت.. ليس بعد؟ أوضح أكثر الاقتصاد هو الإسم الحديث لبقاء الكائن الحي.. هو اقتصاد لأننا نقتصد في الموارد المتاحة من أجل أن تكفينا.. تكفينا لماذا؟ لنبقى.. الاقتصاد.. بمعنى الاقتصاد السياسي وليس الاقتصاد الكلي أو الجزئي أو الدولي أو الصناعي الخ.. الاقتصاد.. وظروفه.. وهياكله.. وطرق الإنتاج.. والعلاقات التي تفرضها على البشر.. كي يجدوا ما يقتاتوا به وبالتالي يحافظون على بقاءهم.. هذا المفهوم للاقتصاد يصيغ – بما يخدمه – جميع الظروف الأخرى.. لا يحدث ذلك بشكل عمدي مخطط تآمري.. أبدا.. الغالبية العظمي من التفاعلات تحدث بشكل تلقائي.. طبيعي.. حتمي.. قليل جدا يحدث نتيجة تخطيط بشري.. هذه أمور فوق طاقة البشر.. نظلم أنفسنا كثيرا جدا عندما نبدع نظريات تآمرية رهيبة.. لو صحت.. إذن فواجب علينا أن نستسلم.. لأن لو هناك بشرٌ كهؤلاء الذين نتصورهم.. لما أمكن أبدا مقاومته.. ننسى أن البشر يخطئون.. قد يحاولون التأثير في مجريات تطور العالم.. ولكنهم غالبا ما يفشلون.. الذي يتآمر لتسريع وتوجيه تأثيرالاقتصاد السياسي على باقي أوجه الحياة.. فإنه كمن يحاول تأسيس دين جديد عمدا وقصدا.. ينتهي به الأمر غالبا في مصحة للأمراض العقلية.. أو للتحول لمادة للتسلية

تعود لمشاكل النوع الأول والتي لا حل لها في مصر ولا سبب لها فيها


آثار العولمة على الفقراء

قلت أن الأوضاع الاقتصادية الجديدة.. التي سادت منذ أصبح العالم كله رأسمالي.. يتطلع لآفاق اقتصادية وعلمية جديدة.. تتميز بالطموح الرهيب والرغبة العارمة في تسريع النمو والتقدم.. ووصلت أحلام البشر في الدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا لعنان السماء


وكان لا بد أن يحدث ما أوضحته من تفاعل اجتماعي ثقافي أخلاقي سياسي مع الحياة الجديدة.. فانطلقت – من العولمة الاقتصادية – عولمات أخرى في الثقافة والسياسة وطرق الحكم ونظريات فلسفة التاريخ والعلاقات الاجتماعية.. وأدت ثورة المعلومات ووسائل الإعلام – التي هي أحد أبرز أوجه العولمة – إلى إبراز أو تضخيم آثار وأخطار العولمات الجديدة.. يعني بعبارة أبسط.. وجد الموظف المصري والفلاح الصيني والعامل الروسي والسائق الهندي.. وكل منهم يعمل بأجر يعادل 80 دولار في الشهر.. وجد نفسه يشاهد في جهاز تليفزيون صغير في بيته أو على القهوة.. صور مبهرة لأحدث السيارات الفاخرة.. وأجمل الملابس.. وأشهى الأطعمة.. ووجد ماكدونالدز يفتح علي قارعة الحي الشعبي الذي يسكن فيه.. ووجد السيارات الفاخرة تنتشر حوله.. والأغنياء يتضاعفون.. والسلوكيات الجديدة لأبناء الطبقات المتعولمة يستفزه ويخيفه.. وهكذا مما أثق أن كل منكم يستطيع سرد عشرات الأمثله عليه

كانت هذه هجمة عولمية خطيرة.. هزت ثقافات بلايين البشر حول العالم.. بات التناقض بين فقرهم وفقر بلادهم وبين ثراء الآخرين وثراء دولهم حقا يسبب صدمة مستمرة بشكل يومي.. الطريقة الجديدة في الاقتصاد.. ارتفاع أهمية الكفاءة والموهبة والتعليم بشكل غير مسبوق.. الموارد البشرية أصبحت كالموارد البترولية.. اقتصاد الخدمات الذي لا يفهم الفقراء ما الهدف منه أصلا.. الحرية الاجتماعية والتحرر الأخلاقي.. السرعة الفائقة لكل شئ.. وأدى كل ذلك لاستثارة الثقافات المحلية وطرق الانتاج القديمة السائدة لدينا ولدى غيرنا من فقراء دول العالم.. الذين لم يجدوا بدا من التمسك بأقوى جذورهم كي يحفظون أنفسهم من السقوط أمام هذا العالم السريع التغير.. القاسي على الفقراء والجاهلين.. فذهبوا إلى شيوخ الأديان جميعا.. يطلبون منهم النجاة والمساعدة.. فزادت سطوة رجال الدين في كل الدول الفقيرة بلا استثناء.. وارتد ملايين البشر إلى تفسيرات قديمة مهجورة تسحبهم بعيدا عن واقعهم المرير الذي يبدو أسودا ومستقبله أسود منه.. أُذَكِّر ثانيا.. أنا الآن أتحدث عن الدول غير المعولمة.. غير الغنية


طيب.. ماذا حدث عند الأغنياء؟

آثار العولمة على الأغنياء
ظهرت مشاكل مختلفة في الدول الأغنى.. تمثلت في مرارة الشعور بقسوة الآثار الجانبية للتقدم الاقتصادي والعلمي السريع.. الثمن الذي يتعين على البشر دفعه من أجل الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة.. بدأ الكثيرون في التسائل عن جدوى اللهاث الرهيب المستمر وراء العمل والإنتاج والتطوير.. أدت قلة الروحانيات لدى البشر المُعَوْلَمين المنتجين حسب شروط الاقتصاد الجديد للشعور بالخواء الداخلي.. الحداثة هي عبارة عن روتين إنتاجي؟ الحداثة هي مجرد روتين؟
كان حتميا أن يرفض الكثيرون في الغرب ما ظهر للعلن من تناقضات حادة مستفزة بين أغنياء العالم وفقراؤه.. ارتد البعض لما قبل العولمة وأخذ ينادي بأن التقدم الاقتصادي كهدف وحيد وأول للإنسان يحوله إلى ماكينة لا شعور لها أو إحساس بمتع الحياة.. ظهرت أنواع جديدة من الأدب وكلها تؤكد على خطورة التقدم العلمي والاقتصادي السريع.. ازداد عدد المطحونين نفسيا في الغرب.. مُرَفهون اقتصاديا وماديا.. ولكن يشعرون بالجفاف الحيوي.. يحتاجون لزيت من الماضي.. يعيد إليهم الشعور بأنهم بشر


باختصار.. كان الإنسان يتطور بيولوجيا بمعدلات أقل من معدلات تطوره الاقتصادي والعلمي.. لم يجد الإنسان الغربي إلا نفس طريق الإنسان غير الغربي.. الدين

الغرب يستدعي الماضي
يميل الدين – أي دين – دائما للتحفظ من جنوح العلم والثراء.. يربط غالبا بين ارتفاع الثراء وانتشار الفساد.. يعلل نسيان الإنسان لربه وخالقه بسبب التهاءه بالدنيا ولذاتها



ذهب الغربيون جماعاتُ لدينهم.. وكالعادة.. وبرغم اختلاف الشكل والغلاف.. شجع الحكام هذا التوجه إذا كان سيريح البشر المعولمين الإنتاجيين (الغربيين) ويجعلهم يوازنون بين متطلبات الاقتصاد الجديد.. واحتياجات الإنسان القديم.. تعصب البعض.. وجدوا في الدين هدفا أرقى من زيادة إنتاج محركات الطائرات.. وجدوا في التعصب ضد الآخرين دافعا أفضل للحياة من تحسين جودة الخدمات المالية.. كان لا بد من عدو.. القادة يريدون عدوا يعبئون به الموارد البشرية والاقتصادية.. الناس تريد عدوا تنفس فيه عن الرفض اللاشعوري للعولمة القاسية والإنتاج اللاهث الذي لا يرحم.. ركز الكل أنظارهم على تناقضات دينهم مع غيره من الأديان.. وكان أقربهم منهم جغرافيا وثقافيا.. وأخطرهم تاريخيا.. هو الإسلام.. فماذا حدث آنذاك؟

مباراة القرن الواحد والعشرين: تعصب الأغنياء الغربيين x تعصب الفقراء الشرقيين
سافر التعصب الغربي.. ليلاقي شعورا حماسيا دينيا ماضويا عند ملايين المسلمين في أفريقيا وآسيا.. وارتدادا جماعيا أعمى للماضي بأدق تفاصيله الدنيوية.. ولكنه يتخذ وضعا أكثر خطورة وحدة عند ملايين العرب بالذات.. لماذا عند العرب بالذات؟

الحاجة أم الاختراع.. وهي أيضا مفتاح تفسير التاريخ

التطرف الإسلامي الحديث ليس له سبب واحد بل ثلاثة: آثار العولمة.. الدولة العربية الرضيعة المصدومة.. ثورة زيتية نقدية هي الأكبر في تاريخ بني الإنسان
كان هناك احتياجا مختلفا عند مسلمي العرب.. احتياجا صنعته براءة وصغر سن الدولة العربية القومية.. بعد الحرب العالمية الثانية عرف العرب لأول مرة في تاريخهم أن يكون لكل جماعة منهم دولة قومية.. طبعا لعبت عوامل التقسيم الاستعماري ورسم الحدود الاعتباطي دور هاما.. ولكن الأهم والأخطر كان حداثة تجربة العرب بالسياسة والاقتصاد الحديثين.. أدى هذا لهزيمة الدولة العربية القومية أمام إسرائيل الصهيونية اليهودية الغربية الإستعمارية أكثر من مرة.. وفشلت كل محاولات القضاء عليها.. وتعذرت استعادة الأراضي المحتلة.. وتصاعد الشعور بالهوان أمام المستعمرين السابقين الذين تمثلهم إسرائيل.. ثم أعقب ذلك سقوط مشاريع الوحدة العربية كلها.. وأسدل موت ناصر ستار هذه المرحلة.. ليرفض الكثيرون بعدها مباشرة فكرة القومية العربية في حد ذاتها.. ويبشرون بنظريات أخرى.. تنتهي مثل ما قبلها بفشل تام للتنمية الاقتصادية والعلمية العربية والإسلامية.. ويستمر الفقر والمرض والجهل ويتفاقموا سريعا
وهبنة الإسلام
كل هذا صنع احتياجا للبديل.. بديل قوي فعال لا يهزم.. ولم يكن هناك أفضل من الدين.. فالناس ترى أنه سبب الأمجاد القديمة.. بالرغم من أن الله ورسله أكدوا لهم تكرارا.. أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. لم يقتنع ملايين العرب بهذا.. كانوا يريدون حلا سريعا ولو كان خياليا.. قويا ولو كان مُتَوَهما


كان يجب أن تُعَدَّل تفاسير الدين لتتناسب مع الاحتياج الحالي.. التركيز على الفترة المكية الموادعة لا يصلح حاليا.. تم استدعاء ما يناسب من كتب التراث المهجورة.. والتركيز على كل ما هو ضعيف وغريب وشاذ من الروايات والأساطير.. ونفي كل ما من شأنه إثارة العقل بأي طريقة


وفي نفس الوقت.. كان هناك تغير شديد الخطورة يحدث في شبه جزيرة العرب


ظهرت.. نتيجة تضحية بالدم من مصر في حرب أكتوبر.. قوة مالية خرافية.. والمال دائما هو الحق.. للأسف.. هذا هو الواقع.. المال يسيطر على الفكر.. ويخلق الرأي.. ويجند أصحاب العقول والعلم.. والفقه.. وملايين العرب في حالة انتظار لأي شيخ معمم ينقذهم من مرارة الهزيمة والفشل الذين يتجرعونها منذ استقلال وقيام دولهم لأول مرة منذ آلاف السنين


وهكذا صبغ المال البترولي الوفير.. المُخَضَّب بلَوْنٍ أحمرٍ قاني.. هو لون الدم المصري المراق في شبه جزيرة سيناء.. صبغ المنطقة العربية كلها بمذهب جديد على الإسلام تماما.. مذهب وُجِدَ هناك منذ مائتي سنة تقريبا.. في شبه الجزيرة.. شبه الجزيرة العربية وليس شِبْهَها المصري السيناوي.. ولم تتعد آثاره حدود جزيرة العرب قبل هذه المرحلة.. هو مذهب محمد بن عبد الوهاب

وعبر سنوات عشر تقريبا.. كان كل شئ يَتَوَهْبَن.. كانت وَهْبَنَة الإسلام تزداد.. مدعومة بأقوى سحرة عصر العولمة.. المال.. ونافذة بأضعف مقاومة ممكنة.. استسلام وانبطاح ملايين العرب.. المهزومين في أعماقهم حتى النخاع من إسرائيل وأعوانها.. وأمريكا وأذنابها.. وحكامهم وأتباعهم


ظهر الحجاب بقوة لأول مرة في تاريخ العرب.. أُكَرِّر.. أول مرة في تاريخ العرب.. لم يكن حجاب ما قبل هو نفس هذا الحجاب المستحدث الذي يفرض تغطية الشعر مع باقي الجسم دون الوجه والكفين.. كان ما قبل احتجابا اجتماعيا وليس حجابا دينيا!! كانت المرأة تلزم بيتها لسنين طوال.. فلا تخرج إلا محتجبةً عن الأعين.. لم يَدِّعِ أحدٌ لهذا تفسيرا دينيا.. ولكن ما ظهر في ثمانينات القرن الماضي.. كان شيئا جديدا.. المرأة تخرج وتذهب وتروح وتجئ.. ولكن تتحجب بمعنى تغطية الشعر.. ويُفَضَّل لو استطاعت الجلوس في منزلها.. فإن لم تقدر.. فلا بُدَّ من هذا الحجاب الجديد تماما عن ألف وثلاثمائة سنة تقريبا من الإسلام!! ألف وثلاثمائة سنة

والسؤال الذي كنت أتمنى يوما من أحد أن يسأله ولم يحدث أبدا
لماذا ظهر الحجاب في مصر بينما هو مرفوض تماما في السعودية التي تلتزم النقاب؟
ولولا إنني أخشى الإطالة والاستطراد.. لشرحت تفصيلا السبب في تحول الانتقاب في الجزيرة إلى حجاب "الدلع" في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية.. ولكنني أكتفي الآن بالإشارة إجمالا إلى حقيقة من حقائق علم الإجتماع الشهيرة.. مفادها أن كل مجتمع يكيف القوانين والنظم وتفاسير الدين والأخلاق والقيم.. بما يتناسب مع ظروفه وجغرافية أرضه واقتصادياته.. فالنقاب الذي يصلح للمرأة السعودية الغنية المرفهة المكيفة بالهواء البارد.. لا يناسب المرأة المصرية الفلاحة البسيطة المكافحة تحت شمس رهيبة.. فارتدائها النقاب يكون حكما بإعدامها.. وأكتفي بهذه الإشارة علني في مناسبة أخرى أفصل وأزيد

تفاعل ثلاثي كاسح
ثم جاء ما سبق شرحه من ظروف العولمة وتهديداتها لتضيف مزيدا من النار على وقود هذا الارتداد المهووس الأعمى لكل الخرافات والأساطير والأوهام البطولية وأحلام الفوز والانتصار الكاسح السماوي الذي يرد الاعتبار ويعيد الكرامة ويرفع الفقر والذل وعار الإهانة.. وأصبحت التشددات والتزمتات والمبالغات والأكذوبات الصحراوية المذهبية الضيقة الملصقة بالدين كطوق نجاة يتمسك به ملايين العرب المسلمين بينما هم يشعرون أنهم يهوون لأسفل سافلين

من ينصح بأولوية التصدي لهذا النوع من المشاكل لا أظنه يريد مصلحة مصر
هذه المشاكل وما يشبهها لا حل له في مصر.. كما أن غالبية دول العالم تعاني من آثارها السلبية.. وسيكون من قبيل الأوهام الخادعة أن نتصور أننا لا يمكن أن نرتقي في ظل هذا النظام وتحت ضغوط آثاره السيئة.. فلا أظننا في مصر نحتاج حاليا لتغيير الكون أكثر ما يجب أن نهتم بتحسين مستوى حياتنا البائسة من الناحية الاقتصادية البحتة لتقترب من إخوتنا في الإنسانية في آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.. لماذا.. لأن المشاكل السابقة لا يضخم من آثارها ويرفع من خطورتها إلا المشاكل الداخلية.. أي ما ينبع من مصر.. وتتسبب فيه ظروف أو تفاعلات داخل مصر.. فإذا ركزنا على هذا النوع.. واستطعنا تشريحه وتحديد أماكن التورم.. نقدر بإزالتها أو تخفيفها.. أن نضعف آثار المشكلات الكونية السابق تفصيلها


حسنا.. ماذا عن النوع الثاني من المشكلات


نذهب إليه قريبا إن شاء الله


اعتذرعن طول هذا البوست.. وأدعو الله راجيا ألا يكون طولاً يُثقل وإسهابا يزَهِّق

Monday, November 26, 2007

تشخيص الحالة المصرية - المقدمة

لم يحيرالمصريين شئٌ.. أكثر مما حيرهم سؤالهم الدائم عن سبب مشاكل مصر وهمومها

وفي هذه الأيام.. ونحن في بداية الألفية الثالثة من التقويم الميلادي.. والألفية السادسة منذ وحَدَّ نارمر العظيم قطري مصر الشمالي والجنوبي ليؤسس أول كيان سياسي مستقل عرفه تاريخ البشر.. تبدو غالبية المصريين مُجمِعة على أن الحالة المصرية الراهنة.. إن لم تكن هي الأسوأ بامتياز خلال كل التاريخ المصري المديد.. فهي بالتأكيد واحدة من أسوأ الحالات التي وصلت لها مصر.. وللأسف لا يبدو أن هناك اتفاقا عاما أو إجماعا شعبيا على توصيف المقصود بـ"الأسوأ".. ولكن من المؤكد أن هناك مزاجا اكتئابيا شاملا يدفع الجميع لأن يقررون بحسم: الأسوأ في كل شئ وأي شئ


ولا أظن أن هناك كلمة تُكتَب أو تُقال أو يُرسَم معناها أو يُصَوَّر محتواها فنيا أو غنائيا.. إلا وكان لها علاقة ما بمشكلات مصر أو بمشكلة بعينها.. أو تكون هي نفسها مشكلة من هذه المشكلات
حتى الغناء والطرب والفن عموما.. فقد يرى البعض خلوه من علاقة بمشاكل مصر وأزماتها.. إلا إنني أرى العكس

فإذا نظرنا إلى الغالبية الساحقة من فن الفنانين وطرب المطربين وغناء المغنيين.. فلن نجده يبحث أو فإذا نظرنا إلى الغالبية الساحقة من فن الفنانين وطرب المطربين وغناء المغنيين خلال العقود الماضية.. فلن نجده يبحث أو يدرس أو ينصح أو يناقش إلا إحدى صور الحب الرومانسي أو الحسي الجذاب للمراهقين.. أو حتى الحب العاطفي الناضج بتاع زمان.. فإذا تنوع الموضوع على سبيل التغيير.. فإن البديل يكون هو الفن الذي يدعو لحب الوطن وتقديسه.. على أن تكون الدعوة ساذجة ومباشرة.. حتى لا ينتهز أحد المواطنين المغرضين ممن يمتلئ بهم الوطن هذه الأيام الفرصة.. فيلبي الدعوة ويحب مصر بجد!.. وكل هذا فضلا عن الغناء الشعبي الذي تحول لحالة جماعية من الفوضى والاحتجاج السوقي على كل شئ.. ولا ينسى الفن أن يؤدي فروضه الدينية.. فيتُحفنا كل حين بأعمال كرتونية تُسلِّي وتُضحِك.. والمفروض أنها تمتع وتُعلِّم.. تُزوِّر في التاريخ وتحض على الكراهية.. والمفروض أنها تؤرخ بموضوعية وصدق وتحث على التسامح والرحمة.. وتتميز بالإغراق في الخيال وتسطيح الرؤية للكون والدنيا.. وفي النهاية ينتصر الخير ويصفق الجمهور

أليست هذه مشكلة مصرية كبيرة في حد ذاتها؟ هل هذا فنٌ يُفترض أن يرتفع بوجدان الناس وإحساسهم؟.. هل هذا فن يمكن أن يغرس شعورا إنسانيا عميقا داخل النفس البشرية؟.. يوحد بين مواطنين في دولة واحدة ويُشعرهم بانتماءهم لكيان واحد؟ يُفيق الناس ويدفعهم دفعا لممارسة فعل التقدم


.
يا الله.. ما أصعب الحديث عن مصر.. فمجرد تقديم المقدمة يستدرج إلى أغرب صور المشاكل وأندرها.. وأبعدها ظاهرا عن أصل الموضوع

ولكن.. فما يظهر مبتعدا قد يكون مقتربا وواصلا.. فما سبق يقودنا لأول خاصية وأخص لازمة لمشاكل مصر.. وهي ذلك التشابك الهائل بينها.. والتعقيد البالغ لها

ققد أوضحت من قبل كيف تتجمع المشاكل وترتبط وتتحول لكيانات أكبر وأخطرفي مقال محاورات مصرية.. وخلال هذه العملية.. فإن أطراف المشكلات تتصل ببعضها البعض.. وتنفتح قنوات بين بحار الظلمات فتنتقل مشاكل قديمة إلى أخرى أحدث.. وتبحر صعوبات بسيطة نحو صعوبات أعقد.. وتتموه أوجه الأزمة فيتوه الباحث ويَضِّل المحقق.. وعندما تتصل الشبكة الكارثية كلها ببعضها البعض.. يقف الحال.. ويبدأ الناس في البحث الهيستيري عن مخارج نجاة.. فلما لا يجدوا.. يثورون ويهيجون.. ويسبون ويشتمون.. ثم في أي مكان يضربون وينطحون.. فلا يزيد الضرب الأهوج قلبَ الأزمات إلا اشتدادا.. وما أظن الآن أن هناك من غالبية المصريين من لا يعتقد أننا وصلنا لهذا الحال.. وأن الحيرة والتخبط أصبحتا شعارا للمرحلة.. وأن الطريقة المصرية التاريخية لحل المشاكل لم تعد تجدي أكثر من ذلك

وبداية.. فإن هذه الخاصية وتلك اللازمة ليست مقصورة على مصر وحدها في العالمين

هو حال العرب جميعا فيما أظن وإن تباينت الصور والأشكال.. وربما هو حال أغلب المسلمين.. وكان أيضا حال آخرين من بلاد الشرق والجنوب منذ شهور وسنين.. ثم أنه كان حال الشمال والغرب منذ سنوات وقرون قليلة مضت

فلا ييأس أحد ولا يقنط.. فما أصاب مَن قَبْلَنا مِن نعمة قد يصيبنا.. وما فاتهم من فقر وجهل ونقمة سيفوتنا.. لو فهمنا بصدق ووضوح حالنا.. ووضعنا عنا ثقيل أسفارنا.. وعرفنا كيف نُولِّي الأولويات ونُرتِّب المُهمات.. فلا يخدعنا ما هو نتيجة عما هو سبب.. ولا يشغلنا ما هو أهون عما هو أعظم.. ولا يغرينا ما هو أضرُّ عما هو أنفع.. ولا يفزعنا ما هو أعلى صوتا وأخفض طحنا.. فنترك ما هو أعدم حسا وأكمل تدميرا

المشكلة الأولى والأكبر في رأيي هي ذلك العنوان المبهم الغامض: مشاكل مصر

هكذا.. أصبح إسم مصر مرادفا لكلمة مشكلة.. أو أزمة.. أو هم.. عندما يقول البعض مشاكل مصر.. فإنه يعني الفقر.. والبعض الآخر يعني غياب الدور السياسي.. والبعض الآخر يتحدث عن ضعف البحث العلمي.. وآخرون يقصدون أن مشاكل مصر هي ضياع الهوية والإنتماء وفساد الذوق العام.. ثم يؤكد البعض مصححا أن مشاكل مصر تعني الزحام وأزمة المرور.. أو هي سوء الخدمات الحكومية.. وربما يقصد آخرون سوء الرعاية الصحية.. والبعض الآخر يظن كلمة مشاكل مصر تساوي تماما كلمة غياب الديمقراطية.. أو سيادة الدكتاتورية.. أو ربما تكون المشاكل نتيجة لليبرالية لمن يرى أننا نعتنقها فعلا.. أو هي بسبب غيابها لمن يرى أننا لسنا ليبراليين شعبا وحكومة ومجتمعا.. ومشاكل مصر عند الإخوان المسلمين ومناصريهم تعني عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.. وعند الناصريين فهي كامب ديفيد والتطبيع.. واليساريون يضحكون ساخرين ويقولون الاشتراكية يا جماعة.. والليبراليون يصرخون محذرين من الرقص على السلالم وعدم تطبيق آليات السوق الحر بشكل كامل والخصخصة حتى النهاية
ووسط كل هذا.. تصاب الغالبية الملايينية بحالة كاملة من الحيرة.. والحيرة تقود إلى التفكير المتعمق.. والتفكير المتعمق بلا معلومات حقيقية أو آراء ذات مصداقية أو أية دلائل علمية ينتهي إلى لا شئ.. واللاشئ هو بالتعريف عبارة عن فراغ.. والفراغ يجب أن يُملأ وفقا لسنن الله في الكون.. ويأتي كل هذا الصراخ والعويل والتشكيك والاتهامات والأكذوبات والتجنيات والتزييفات التي تنتجها كل الأطراف المفترض أن تقود الرأي العام.. لتملأ الفراغ وتشبع حاجة الناس إلى الى الفهم.. ولكنه فهمٌ ظاهره العلم وباطنه وجوهره الجهل

وهذا الجهل الباطن يحرك غضب الإنسان ويضايقه.. فيجد نفسه ثائرا.. زاعقا.. غاضبا.. محبطا.. لا يدري أين يذهب وماذا يفعل لكي يفهم حقا.. ويظل هكذا حائرا ثائرا صارخا.. حتى تنفد طاقته.. وينتهي غضبه.. وتموت إرادته التي كانت حية.. فيعود للاستكانة والخضوع والتبلد.. ويتعلم أن يسليَّ نفسه بالشتائم والسباب ليهون شعورا مميتا بالعجز والتيه.. ويشكك في كل شئ يحدث حوله.. ويرى الدنيا سوداء دامسة.. فيُشيع روح الاكتئاب واليأس بين الناس
وبسريان روح اليأس والإحباط والجهل والاكتئاب.. يبحث المحبطون التائهون عن سبب لما هم فيه.. فيعودون لكلمة السر السحرية.. مشاكل مصر.. فهي سبب اليأس والقعود.. ومن لا ييأس ويقعد فهو من الخائنين أصحاب المصلحة.. فيكفيه عارا أنه يحاول أن يفعل شيئا.. ففعل "الفعل" ذاته يستفز القاعد الجالس.. والمحاولة والاجتهاد تثيران غضب اليائس الزهقان.. فتصبح الحكومة أو الرئيس أو نظام الحكم تارة هي سبب كل مشاكل مصر.. وينسى القائل أن هذه المشاكل التي يعددها جميعا مستمرة مع مصر وفيها منذ عقود طويلة إن لم تكن قرون مديدة.. ومرة أخرى.. يصبح الإخوان المسلمون مثلا هم سبب هذا الجحيم الذي نحيا فيه.. ولا دليل حقيقي يثبت هذا أو يسنده ولو من بعيد.. ثم أحيانا تكون أمريكا.. أو إسرائيل.. أو قوى الإمبريالية العالمية.. أو ربما هي السعودية العربية.. ومرات تستقر الكرة الدوارة على الحكام السابقين.. فيصبح ناصر هو المتهم.. أو السادات هو أصل الكارثة.. ويفضل البعض الظهور بهيئة المثقف المختلف مع الآراء السائدة.. فيقول مثلا أنها الهوية العربية هي سر نكبتنا.. أو التبعية الغربية.. أو حتى الشخصية الفرعونية.. أو هو انتهاك حقوق المرأة.. أو هو الحجاب.. أو عدم الحجاب.. وأحيانا نتجه إلى السماء.. فنشير إلى غضبها من عصياننا.. وتتعدد الاتهامات ولا ينتهي عدد المتهمين








وكل هذا.. في رأيي.. يعود في أول مقام وأقدم سبب.. إلى انعدام ثقافة التفكير العلمي المنهجي الموضوعي تماما بين ظهرانينا.. فهي عدمٌ مطلق عند غالبية الناس.. وهي الأصول والأعراف عند أنصاف المتعلمين.. وهي رطانة لفظية عند أشباه المثقفين.. وهي سلاح جدلي انتقائي عند المثقفين الحقيقيين.. إلا قليلا.. جدا

فأول أطراف الخيط.. أن نتفق على أنه لا يوجد شئ إسمه مشاكل مصر من الناحية الواقعية.. نعم هو تعبير جاذبٌ أدبيا وبلاغيا.. ونحن لسوء الحظ نعشق الاستعارات والكنايات.. ونهوى الاستسلام لغواية ألاعيب الفصحاء.. ولكن علميا ولفظيا وواقعيا.. مصر هي شخص اعتباري لا مشاكل له إلا بما لعناصره التكوينية من مشكلات أو أزمات.. ومجموع هذه المشاكل قد يجوز أن نسميه مجازا "مشاكل مصر".. ولكن لا ينفع أبدا أن نتعامل معه كوحدة واحدة إذا وجدنا حلا لها فإنها تنتهي على الفور.. كأن نقول أن الحل هو الإسلام.. فإذا طبقنا الشريعة.. انتهت مشاكل مصر.. أو أن الحل هو الديمقراطية.. فإذا أجرينا انتخابات نزيهة وعدلنا الدستور أو بدلناه.. زالت مشاكل مصر.. كل هذه الإدعاءات للأسف لم تخلقها إلا مكايد السياسة وأكاذيب الساسة.. ويميل الناس إلى تصديقها أملا في انتهاء عذاباتهم سريعا وبضربة واحدة









دعونا نبدأ التحديد.. ولا نمل من التحليل.. فلا أمل لنا إلا بجيل يتعب ويكافح ويجاهد من أجل المعرفة والفهم.. بلا هدف.. أو أيديولوجية.. أو غاية.. إلا لو اعتبرنا حب مصر غاية

أولا يا سادة.. مصر لا مشاكل لها إلا بما يخص ساكنيها من أحياء.. أو يمس سلامة أراضيها من أسوان إلى سيناء.. أو يهز مجتمعها الذي يجمع من يقيم فيها في إطار مرسوم.. تحكمه حكومة.. وينظمه نظام.. ويقننه قانون.. ويُعيلُه إنتاج واقتصاد.. وتُؤَمِنُّهُ قوة ردعٍ وعقاب.. يحيط به من كل جانب وفراغ.. هواءٌ يحيا به المجتمعون.. هو الفن والثقافة.. والفكر والصحافة.. والعادات الموروثة.. والتقاليد المحفوظة.. وأحكام الدين المشروحة من رجاله وفقهاءه
فيجب أن تُرسم خريطة.. تصف وتُعِّين.. تدل وتُرشد.. ترتب وتميز.. وبدون خريطة كهذه.. يتفق عليها المعالجون ويقبلها المرضى كمرجعية وأساس.. فلا أرى أملا في علاج ما بنا.. فلا دواء إلا بعد معرفة الداء.. ولا شفاء يأتي إلا بعد تشخيص سليم مؤكد.. وتحليل شامل مفصل


وما يعقُبُ لاحقا.. إن هو إلا رأيٌ واجتهاد.. يُثيبُه الله بأجرٍ في الخطأ وضعفين للحق.. وتُجازي عنه التجربة الإنسانية بأن تعممه وتقدمه.. فيصبح الرأيُ نورا.. يهدي من أتى لاحقا.. ويصير الاجتهادُ دليلا..ً يرشد ويطمئن من مشى خائفا وَجِلُ