على إسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء..أنا إسم مصر عندى أحب وأجمل الأشياء

على إسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء..أنا إسم مصر عندى أحب وأجمل الأشياء

Sunday, September 28, 2008

جمال عبد الناصر

لا أعرف لمتى سنظل كارهين للتفكير العقلاني البعيد عن العاطفية والمشاعر. لا أعرف لمتى سيظل إسم جمال عبد الناصر يُسبب حساسية هيستيرية عصبية سوءا بسبب (الحب) أو (الكره)، وهما العاطفتان المفترض ألا يكون لهما مكان في تحليل أو فهم الأمور.

ومحاولة للابتعاد عن الشحنات العاطفية المكثفة المرتبطة دائما باسم عبد الناصر، سأتخيل نفسي محللا سياسيا من الدولة (س ص) في الكوكب (و ي) القابع في مجرة (سكة السلامة) التي يفصل بينها وبين مجرتنا الحبيبة (درب التبانة) 52 مليون سنة ضوئية. وسأفترض إنني في مهمة علمية بحتة تهدف لتقديم إطار تحليلي شديد الاختصار لكائن أرضي اسمه جمال عبد الناصر، حكم دولة على نفس الكوكب اسمها مصر حتى وفاته عام 1970 بالتقويم السائد على هذا الكوكب.

فيجب أولا الاتفاق على أن ليس معنى تفسير سياسة معينة لعبد الناصر أن يُحسب الغرض من هذا التفسير تبريرا وتبريئا. وليس معنى توضيح عثرات الرجل وأخطاءه أن يُحسب الغرض من هذا تشويها وتآمرا أجنبيا.

هو مجرد تحليل.. وهي مجرد رؤية: تتحرى البعد عن العواطف بقدر ما هو ممكن لمخلوق فضائي ليس من كوكبكم.

..

دائما يتردد هذا السؤال: ماذا بقى من عبد الناصر؟

وفي رأيي.. هذا هو أهم ما بقى من جمال عبد الناصر:

..

أول ما بقى من عبد الناصر أن مصر لا – ولن – تقع تحت احتلال أجنبي عسكري مباشر. وأن مصر أصبحت للمصريين، يفعلون بها ما شاءوا.

فلا جدال حول حقيقة بسيطة وواضحة:

كان ممكنا بالفعل أن يخرج الإنجليز من مصر بدون ثورة أو انقلاب أو حركة يوليو (سمها كما تشاء)، ولكن كيف كانت ستخرج الأسرة الحاكمة غير المصرية؟

أخرج هذا العمل الثوري (الثورة أو الانقلاب أو الحركة أو الوثبة أو العفريت) الذي حدث في 1952 كل ما هو غير مصري من مصر.

إذن.. فأول ما بقى من ناصر هو مصر مصرية. مصر تبدأ طريقا جديدا نحو حكم نفسها بنفسها، دون مشاركة من انجليز أو قصر أو غيره، وهو ما لم يحدث عبر تاريخها.

إقرأ كلمات الدكتور جورج قرم في كتابه (انفجار المشرق العربي) عن ناصر:

"جمال عبد الناصر هو ابن لشعب مصر المتخم بالذل، والمصعوق بالفقر عبر آلاف السنين، هو أول حاكم مصري لشعب مسخر منذ سنوات وسنوات لخدمة السلالات الملكية الأجنبية."

أهم ما يجب أن يفهم عن ناصر هو شعوره الهائل بإهدار الكرامة. شعوره بهوان مصر وشعبها على الدنيا. كانت هذه من أهم النقاط التي لا تُفهم شخصية ناصر بدونها. الكثير من تصرفاته وقراراته نتج عن شعوره العميق بالإهانة من الغرب ورغبته في تحديه. في كل الأحوال ليس هذا معرض تحليلنا الآن، وله مجال آخر.

..

ثاني ما بقى من ناصر، هو النظام السياسي الذي ابتدعه وأسسه وسهر على تكوينه وتدعيمه. نظام الحكم السلطوي الشمولي الشخصي القائم على حكم فرد رجل واحد.

لن أناقش لماذا اختار ناصر – أو اختير له قدرا – هذا النوع من نظم الحكم. هناك العديد من الأسباب التي حللت هذا التوجه. أركز فقط على أن جمال عبد الناصر هو مبدع النظام السياسي الذي مازال يستمر بين ظهرانينا حتى ساعته وتاريخه.

لم يتغير نظام ناصر حتى الآن. أرجوكم. لا يعني هذا مسؤولية ناصر أو عدم مسؤوليته. المشكلة ليست في تبرئة ناصر أو إدانته. المشكلة في إنقاذ وطننا مما هو فيه. ولا سبيل لهذا إلا بفهم ما جرى وما يجري وما سيجري بعقول باردة.

صفى عبد الناصر كبار معارضيه السياسيين. أزاحهم واحدا بعد واحد. فَصَّل الدساتير المناسبة لتحقيق أهدافه السياسية. اختار العديد من السياسات التي لا فائدة منها إلا تدعيم النظام وترسيخ أسسه تحت الأرض. اختلط أمن النظام بأمن مصر كثيرا، واختلطت مصر نفسها بناصر حتى باتا شيئا واحدا، وأصبح ما يثير غضب ناصر شخصيا يستدعي أن تغضب مصر كلها. أفرغ عبد الناصر السلطتين المنافستين له في الحكم من كل قوة وبأس. جعل البرلمان مبصمة والقضاء بارافان. سيطر بقبضات ثلاث على كافة أوجه الحياة في مصر: قبضة أمنية ثقيلة، وقبضة سياسية منافقة، وقبضة أيديولوجية لزجة.

أفسد النخبة السياسية بالجزرة مرة وبالعصا مرات. بعد ناصر استخدم مبارك الجرزة مرات أكثر وقلل من استخدام العصا. ساعد أيضا من تقليل استخدام العصا مع النخبة أن هذه النخبة ذاتها تعلمت وتطورت عبر سنوات التسلط والقهر فصارت أكثر ليونة وتكيفا مع نظام الحكم.

كل هذا بقى حتى اليوم، مع الكثير من التفاصيل والتحورات. لا يعني ما سبق أن ناصر مسؤول – بعد وفاته – عن استمرار نظامه السياسي. هذا خارج إطار التحليل.

بلا شك أن هناك علاقة ما بين الثقافة الاجتماعية السائدة في مصر – والعالم العربي – وبين النظم التسلطية الشخصية السائدة في هذا العالم العجيب. لا شك أن كل من ناصر والسادات ومبارك هم جميعا نتاج للبيئة المصرية والعربية والإسلامية التي أنجبتهم وأنجبت غيرهم وأنجبت أيضا الشعوب التي لا تتحدى هكذا أنظمة وتقدم أمامها من الصبر والخضوع ما يغري ويزين ويبرر الاستمرار.

هذا هو إذن أهم ثاني تركة ناصر: نظام سياسي سلطوي فاسد سياسيا، مستبد، قائم ويدور حول شخص واحد: رئيس الجمهورية.

..

ثالث ما تركه ناصر في رأيي، هو الاعتزاز المصري بالهوية المصرية الحديثة.

فالهوية المصرية منقطعة الاتصال منذ الغزو العربي لمصر عام 640م، والمصريون تائهون عن أنفسهم منذ قرون. أعاد عبد الناصر – بلا شك – الشعور العام لكل مصري ببعض الفخر لأنه مصري. المكانة التي تمتع بها الرجل دوليا وعربيا، جعلت المصريين يفخرون – وقتها – بأنهم من عصر جمال عبد الناصر، وبعد وفاته تبقى ذلك الشعور النوستالجي بأن (مصر عبد الناصر) هي مصر كريمة أبية عزيزة. سواء اتفق الجميع على صحة المقولة السابقة أو خطأها فلا شك أنها تمثل شعورا جماعيا عاما وسط المصريين.

..

رابع ما تركه ناصر وبقى حتى الآن: فشل التنمية الاقتصادية بكل صورها.

فالنظام السلطوي الناصري – المستمر حتى اليوم – هو نظام غير تنموي ولا يمكن أن تتحقق منه تنمية اقتصادية/اجتماعية حقيقية لمصر.

السبب في هذا واضح: النظام السياسي المصري – منذ ناصر وحتى الآن – يفتقر إلى شرعية القبول العام. تمتع ناصر وحده بهذه الشرعية ولكنه لم يكن مسؤولا أمام الشعب، ولكن لم يتمتع لا نظام ناصر ولا مؤسساته بأية شرعية سياسية. وبالتالي فإن قرارت الاصلاح الاقتصادي الخطيرة والجادة التي يجب أن يتخذها أي نظام من أجل تحقيق نقلة نوعية حقيقية في الاقتصاد والمجتمع كانت دائما تتعطل ولا تُتَخَّذ.

الموضوع ببساطة أن النظام الناصري (بمعنى النظام السياسي القائم من يوليو 52 وحتى الآن) يحتاج لكي يستمر إلى شراء الولاء السياسي له؛ ولاء النخبة السياسية، ولاء البيروقراطية، ولاء الشعب.

ولشراء هذه الولاءات باستمرار، وبالتالي ضمان استمرار بقاء النظام، يجب أن تتولى الدولة مسؤولية تشغيل وتسكين وتعليم وتطبيب الشعب، بحيث يعتمد الشعب على هذه الدولة فلا يخرج من تحت عباءتها ولا يستقل عنها، وبالتالي يقبل بالنظام السياسي القائم – احتياجا - حتى ولو كرهه وأيقن من فساده.

المشكلة أن أي إصلاح اقتصادي حقيقي يجب أن يبدأ من إعادة توزيع موارد الاقتصاد بشكل يتسم بكفاءة ورشادة، ولكي يتم هذا فيجب غلق الصنابير التي ينفق منها على شراء الولاءات ودفع رشاوي الصمت (النخبة تأخذ نصيبها مناصب وتسهيلات وعلاقات، والشعب يأخذ دعم عيني)، فإذا ما أُغلقت الصنابير فإن الولاءات للنظام ستتبدد، وبما أن النظام ليس له قاعدة شرعية سياسية انتخابية، فإن تبدد هذه الولاءات المشتراة يقضي حتما بزواله، وبزوغ نظام ديمقراطي لا يكون محتاجا لدفعه الرشاوي.

وبالتالي، فبسبب رفض النظام السياسي المصري (1952-الآن) أن يتخلص من طابعه السلطوي الفردي، فإنه عاجز حتى النخاع عن تبني إصلاحات اقتصادية جذرية تنقل مصر لمصاف الدول المتقدمة على غرار دول شرق آسيا.

المفارقة الغريبة أن الوحيد الذي كان يستطيع أن يحقق معادلة النمو والتنمية الاقتصادية السريعة مع الحفاظ على الطابع السلطوي لنظامه كان هو ناصر نفسه. السبب في هذا هو أنه كان يقدر أن يتخذ القرارات الجريئة المطلوبة، معتمدا على شرعيته الشخصية وجاذبيته الكاريزمية. لكن ناصر لم يفعل. لماذا؟ مجال يطول شرحه.

..

خامس ما تركه ناصر حتى الآن، هو بناء معايير عالية المستوى في مجالات الفكر والفن والثقافة (التي أحبها ناصر واهتم بها) نقيس عليها تردينا الحالي في هذه المجالات.

فلا شك أن عبد الناصر كان يقرأ. وكان يحاول تثقيف نفسه بقدر الإمكان. وكان يعشق الفن والفكر ويخشاهما في ذات الوقت. ولا شك أن مصر الستينات أنتجت أوزانا ثقيلة فنيا وفكريا. ولا شك أن المشروع المصري للتحرر والاستقلال وبناء الدولة قد ألهم خيال المبدعين. ولا شك أن التحولات اللاحقة على عهد عبد الناصر قد ألقت مزيدا من الضوء على التميز الثقافي لعصر ناصر.

..

كانت هذا محاولة فضائية متواضعة ومحدودة لقراءة سريعة حول تراث ناصر بمناسبة مرور 38 سنة على وفاته. يلاحظ من يقرأ إنني لم أتعرض للكثير من الأمور: إما لأنها تندرج تحت أحد البنود العريضة التي أشرت إليها، أو إنها تندرج ضمن (الإنجازات أو الإخفاقات المادية) التي لم أشر إليها متعمدا حيث اقتصرت على الأمور المعنوية وغير المادية.

..

وأخيرا.. في رأيي .. إن مصر لا تقدم لها إلا إذا تحررت من نظام 52.. فهو نظام استنفد فرصته بالكامل عبر أكثر من 56 عاما.. آن لمصر أن تتخلص من حكم الفرد وتقديسه وعبادته..

ولكن هل مصر مستعدة؟

هل ثقافة مصر تسمح بذلك؟ أم أن المجتمع الأبوي – الذي يقوم على مبدأ أن من ليس له كبير يجب أن يشتري له واحدا! – هو مجتمع يستلذ بالسيطرة الفوقية عليه؟ هل ثقافة الأسرة المصرية وتربيتها السياسية والاجتماعية تمكن لهذا التحول من الحدوث يوما ما؟ قريبا أو بعيدا؟

هل، وألف هل.. ولا أجد الإجابة.