وفي هذه الأيام.. ونحن في بداية الألفية الثالثة من التقويم الميلادي.. والألفية السادسة منذ وحَدَّ نارمر العظيم قطري مصر الشمالي والجنوبي ليؤسس أول كيان سياسي مستقل عرفه تاريخ البشر.. تبدو غالبية المصريين مُجمِعة على أن الحالة المصرية الراهنة.. إن لم تكن هي الأسوأ بامتياز خلال كل التاريخ المصري المديد.. فهي بالتأكيد واحدة من أسوأ الحالات التي وصلت لها مصر.. وللأسف لا يبدو أن هناك اتفاقا عاما أو إجماعا شعبيا على توصيف المقصود بـ"الأسوأ".. ولكن من المؤكد أن هناك مزاجا اكتئابيا شاملا يدفع الجميع لأن يقررون بحسم: الأسوأ في كل شئ وأي شئ
فإذا نظرنا إلى الغالبية الساحقة من فن الفنانين وطرب المطربين وغناء المغنيين.. فلن نجده يبحث أو فإذا نظرنا إلى الغالبية الساحقة من فن الفنانين وطرب المطربين وغناء المغنيين خلال العقود الماضية.. فلن نجده يبحث أو يدرس أو ينصح أو يناقش إلا إحدى صور الحب الرومانسي أو الحسي الجذاب للمراهقين.. أو حتى الحب العاطفي الناضج بتاع زمان.. فإذا تنوع الموضوع على سبيل التغيير.. فإن البديل يكون هو الفن الذي يدعو لحب الوطن وتقديسه.. على أن تكون الدعوة ساذجة ومباشرة.. حتى لا ينتهز أحد المواطنين المغرضين ممن يمتلئ بهم الوطن هذه الأيام الفرصة.. فيلبي الدعوة ويحب مصر بجد!.. وكل هذا فضلا عن الغناء الشعبي الذي تحول لحالة جماعية من الفوضى والاحتجاج السوقي على كل شئ.. ولا ينسى الفن أن يؤدي فروضه الدينية.. فيتُحفنا كل حين بأعمال كرتونية تُسلِّي وتُضحِك.. والمفروض أنها تمتع وتُعلِّم.. تُزوِّر في التاريخ وتحض على الكراهية.. والمفروض أنها تؤرخ بموضوعية وصدق وتحث على التسامح والرحمة.. وتتميز بالإغراق في الخيال وتسطيح الرؤية للكون والدنيا.. وفي النهاية ينتصر الخير ويصفق الجمهور
ولكن.. فما يظهر مبتعدا قد يكون مقتربا وواصلا.. فما سبق يقودنا لأول خاصية وأخص لازمة لمشاكل مصر.. وهي ذلك التشابك الهائل بينها.. والتعقيد البالغ لها
ققد أوضحت من قبل كيف تتجمع المشاكل وترتبط وتتحول لكيانات أكبر وأخطرفي مقال محاورات مصرية.. وخلال هذه العملية.. فإن أطراف المشكلات تتصل ببعضها البعض.. وتنفتح قنوات بين بحار الظلمات فتنتقل مشاكل قديمة إلى أخرى أحدث.. وتبحر صعوبات بسيطة نحو صعوبات أعقد.. وتتموه أوجه الأزمة فيتوه الباحث ويَضِّل المحقق.. وعندما تتصل الشبكة الكارثية كلها ببعضها البعض.. يقف الحال.. ويبدأ الناس في البحث الهيستيري عن مخارج نجاة.. فلما لا يجدوا.. يثورون ويهيجون.. ويسبون ويشتمون.. ثم في أي مكان يضربون وينطحون.. فلا يزيد الضرب الأهوج قلبَ الأزمات إلا اشتدادا.. وما أظن الآن أن هناك من غالبية المصريين من لا يعتقد أننا وصلنا لهذا الحال.. وأن الحيرة والتخبط أصبحتا شعارا للمرحلة.. وأن الطريقة المصرية التاريخية لحل المشاكل لم تعد تجدي أكثر من ذلك
وبداية.. فإن هذه الخاصية وتلك اللازمة ليست مقصورة على مصر وحدها في العالمين
هو حال العرب جميعا فيما أظن وإن تباينت الصور والأشكال.. وربما هو حال أغلب المسلمين.. وكان أيضا حال آخرين من بلاد الشرق والجنوب منذ شهور وسنين.. ثم أنه كان حال الشمال والغرب منذ سنوات وقرون قليلة مضت
فلا ييأس أحد ولا يقنط.. فما أصاب مَن قَبْلَنا مِن نعمة قد يصيبنا.. وما فاتهم من فقر وجهل ونقمة سيفوتنا.. لو فهمنا بصدق ووضوح حالنا.. ووضعنا عنا ثقيل أسفارنا.. وعرفنا كيف نُولِّي الأولويات ونُرتِّب المُهمات.. فلا يخدعنا ما هو نتيجة عما هو سبب.. ولا يشغلنا ما هو أهون عما هو أعظم.. ولا يغرينا ما هو أضرُّ عما هو أنفع.. ولا يفزعنا ما هو أعلى صوتا وأخفض طحنا.. فنترك ما هو أعدم حسا وأكمل تدميرا
المشكلة الأولى والأكبر في رأيي هي ذلك العنوان المبهم الغامض: مشاكل مصر
هكذا.. أصبح إسم مصر مرادفا لكلمة مشكلة.. أو أزمة.. أو هم.. عندما يقول البعض مشاكل مصر.. فإنه يعني الفقر.. والبعض الآخر يعني غياب الدور السياسي.. والبعض الآخر يتحدث عن ضعف البحث العلمي.. وآخرون يقصدون أن مشاكل مصر هي ضياع الهوية والإنتماء وفساد الذوق العام.. ثم يؤكد البعض مصححا أن مشاكل مصر تعني الزحام وأزمة المرور.. أو هي سوء الخدمات الحكومية.. وربما يقصد آخرون سوء الرعاية الصحية.. والبعض الآخر يظن كلمة مشاكل مصر تساوي تماما كلمة غياب الديمقراطية.. أو سيادة الدكتاتورية.. أو ربما تكون المشاكل نتيجة لليبرالية لمن يرى أننا نعتنقها فعلا.. أو هي بسبب غيابها لمن يرى أننا لسنا ليبراليين شعبا وحكومة ومجتمعا.. ومشاكل مصر عند الإخوان المسلمين ومناصريهم تعني عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.. وعند الناصريين فهي كامب ديفيد والتطبيع.. واليساريون يضحكون ساخرين ويقولون الاشتراكية يا جماعة.. والليبراليون يصرخون محذرين من الرقص على السلالم وعدم تطبيق آليات السوق الحر بشكل كامل والخصخصة حتى النهاية
ووسط كل هذا.. تصاب الغالبية الملايينية بحالة كاملة من الحيرة.. والحيرة تقود إلى التفكير المتعمق.. والتفكير المتعمق بلا معلومات حقيقية أو آراء ذات مصداقية أو أية دلائل علمية ينتهي إلى لا شئ.. واللاشئ هو بالتعريف عبارة عن فراغ.. والفراغ يجب أن يُملأ وفقا لسنن الله في الكون.. ويأتي كل هذا الصراخ والعويل والتشكيك والاتهامات والأكذوبات والتجنيات والتزييفات التي تنتجها كل الأطراف المفترض أن تقود الرأي العام.. لتملأ الفراغ وتشبع حاجة الناس إلى الى الفهم.. ولكنه فهمٌ ظاهره العلم وباطنه وجوهره الجهل
وهذا الجهل الباطن يحرك غضب الإنسان ويضايقه.. فيجد نفسه ثائرا.. زاعقا.. غاضبا.. محبطا.. لا يدري أين يذهب وماذا يفعل لكي يفهم حقا.. ويظل هكذا حائرا ثائرا صارخا.. حتى تنفد طاقته.. وينتهي غضبه.. وتموت إرادته التي كانت حية.. فيعود للاستكانة والخضوع والتبلد.. ويتعلم أن يسليَّ نفسه بالشتائم والسباب ليهون شعورا مميتا بالعجز والتيه.. ويشكك في كل شئ يحدث حوله.. ويرى الدنيا سوداء دامسة.. فيُشيع روح الاكتئاب واليأس بين الناس
وبسريان روح اليأس والإحباط والجهل والاكتئاب.. يبحث المحبطون التائهون عن سبب لما هم فيه.. فيعودون لكلمة السر السحرية.. مشاكل مصر.. فهي سبب اليأس والقعود.. ومن لا ييأس ويقعد فهو من الخائنين أصحاب المصلحة.. فيكفيه عارا أنه يحاول أن يفعل شيئا.. ففعل "الفعل" ذاته يستفز القاعد الجالس.. والمحاولة والاجتهاد تثيران غضب اليائس الزهقان.. فتصبح الحكومة أو الرئيس أو نظام الحكم تارة هي سبب كل مشاكل مصر.. وينسى القائل أن هذه المشاكل التي يعددها جميعا مستمرة مع مصر وفيها منذ عقود طويلة إن لم تكن قرون مديدة.. ومرة أخرى.. يصبح الإخوان المسلمون مثلا هم سبب هذا الجحيم الذي نحيا فيه.. ولا دليل حقيقي يثبت هذا أو يسنده ولو من بعيد.. ثم أحيانا تكون أمريكا.. أو إسرائيل.. أو قوى الإمبريالية العالمية.. أو ربما هي السعودية العربية.. ومرات تستقر الكرة الدوارة على الحكام السابقين.. فيصبح ناصر هو المتهم.. أو السادات هو أصل الكارثة.. ويفضل البعض الظهور بهيئة المثقف المختلف مع الآراء السائدة.. فيقول مثلا أنها الهوية العربية هي سر نكبتنا.. أو التبعية الغربية.. أو حتى الشخصية الفرعونية.. أو هو انتهاك حقوق المرأة.. أو هو الحجاب.. أو عدم الحجاب.. وأحيانا نتجه إلى السماء.. فنشير إلى غضبها من عصياننا.. وتتعدد الاتهامات ولا ينتهي عدد المتهمين
فأول أطراف الخيط.. أن نتفق على أنه لا يوجد شئ إسمه مشاكل مصر من الناحية الواقعية.. نعم هو تعبير جاذبٌ أدبيا وبلاغيا.. ونحن لسوء الحظ نعشق الاستعارات والكنايات.. ونهوى الاستسلام لغواية ألاعيب الفصحاء.. ولكن علميا ولفظيا وواقعيا.. مصر هي شخص اعتباري لا مشاكل له إلا بما لعناصره التكوينية من مشكلات أو أزمات.. ومجموع هذه المشاكل قد يجوز أن نسميه مجازا "مشاكل مصر".. ولكن لا ينفع أبدا أن نتعامل معه كوحدة واحدة إذا وجدنا حلا لها فإنها تنتهي على الفور.. كأن نقول أن الحل هو الإسلام.. فإذا طبقنا الشريعة.. انتهت مشاكل مصر.. أو أن الحل هو الديمقراطية.. فإذا أجرينا انتخابات نزيهة وعدلنا الدستور أو بدلناه.. زالت مشاكل مصر.. كل هذه الإدعاءات للأسف لم تخلقها إلا مكايد السياسة وأكاذيب الساسة.. ويميل الناس إلى تصديقها أملا في انتهاء عذاباتهم سريعا وبضربة واحدة
دعونا نبدأ التحديد.. ولا نمل من التحليل.. فلا أمل لنا إلا بجيل يتعب ويكافح ويجاهد من أجل المعرفة والفهم.. بلا هدف.. أو أيديولوجية.. أو غاية.. إلا لو اعتبرنا حب مصر غاية
أولا يا سادة.. مصر لا مشاكل لها إلا بما يخص ساكنيها من أحياء.. أو يمس سلامة أراضيها من أسوان إلى سيناء.. أو يهز مجتمعها الذي يجمع من يقيم فيها في إطار مرسوم.. تحكمه حكومة.. وينظمه نظام.. ويقننه قانون.. ويُعيلُه إنتاج واقتصاد.. وتُؤَمِنُّهُ قوة ردعٍ وعقاب.. يحيط به من كل جانب وفراغ.. هواءٌ يحيا به المجتمعون.. هو الفن والثقافة.. والفكر والصحافة.. والعادات الموروثة.. والتقاليد المحفوظة.. وأحكام الدين المشروحة من رجاله وفقهاءه
فيجب أن تُرسم خريطة.. تصف وتُعِّين.. تدل وتُرشد.. ترتب وتميز.. وبدون خريطة كهذه.. يتفق عليها المعالجون ويقبلها المرضى كمرجعية وأساس.. فلا أرى أملا في علاج ما بنا.. فلا دواء إلا بعد معرفة الداء.. ولا شفاء يأتي إلا بعد تشخيص سليم مؤكد.. وتحليل شامل مفصل
وما يعقُبُ لاحقا.. إن هو إلا رأيٌ واجتهاد.. يُثيبُه الله بأجرٍ في الخطأ وضعفين للحق.. وتُجازي عنه التجربة الإنسانية بأن تعممه وتقدمه.. فيصبح الرأيُ نورا.. يهدي من أتى لاحقا.. ويصير الاجتهادُ دليلا..ً يرشد ويطمئن من مشى خائفا وَجِلُ